اسم الكتاب: فتيان الزنك-رواية وثائقية
المؤلفة: سفيتلانا أليكسييفيتش
المترجم: عبد الله حبه
الناشر: دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع-دمشق
تاريخ النشر: 2016
عرض: أسامة عباس
* حينما فازت سفيتلانا أليكسييفيتش بجائزة نوبل للآداب في العام الماضي ثارت الضجة، فقد ربط بعضهم فوزها بمعارضتها لكل من الرئيسين البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو والروسي فلاديمير بوتين، وربما كان ذلك الربط صحيحاً وتلك واحدة من رسائل لجنة نوبل، لكن لجنة نوبل صَدَقت حين سَمّت أدبها شاهداً على المعاناة والشجاعة، ويظهر ذلك جلياً في هذا الكتاب، الذي تعرضت المؤلفة بسببه للمحاكمة، وكذلك في كتابها (صلاة تشرنوبل). ورأى آخرون أن المؤلفة لاتمثل "حقيقة" الأدب الروسي أو البيلاروسي، وأنه لايمكن وضعها في خانة واحدة مع بوريس باسترناك الذي فاز بالجائزة في (1958) وألكسندر سولجنتسين الذي فاز بها في (1970)، وربما كان ذلك أيضا صحيحاً، في حال قَبِلنا بإرث نوبل المعلوم، وحده المعيار للفوز بالجائزة، لأن المؤلفة تكتب أدباً يستمد وجوده من الوقائع التاريخية ويعتمد على التحقيق الصحافي الاستقصائي، خلافاً لذلك الإرث.
* وفي هذا الكتاب أصوات كثيرة تتحدث وليست ثمة حبكة روائية، اذ أفسحت المؤلفة المجال/السرد وتركته لجنود وأمهات وزوجات يخبرون تجربتهم مع الحرب السوفيتية في أفغانستان (1979-1989) فتنفتح بشهاداتهم أبواب للألم والتمزق ويظهر ذلك الواقع المخفي للحرب. أما (فتيان الزنك) فهُم أولئك الخمسة عشرة ألف قتيل، الذين كانت السلطات السوفيتية تعيدهم إلى بلادهم في توابيت صُعنت من الزنك. تقول المؤلفة إنها لم ترغب في الكتابة عن الحرب، لكننا في خضمها ورجالها في كل مكان، سألتْ أحد الجنود: لماذا؟ فرد: (هذا أمر يهمني، سأقول كنت عند نفق سالانغ) تقول يكتب الشاعر أبولينير: (آه، كم الحرب جميلة). تقول شاهدتْ معركة قُتل فيها ثلاثة جنود وفي المساء كان الجميع يتناولون عشاءهم، ولم يتذكر أحد المعركة والجثامين ترقد قريبة من المكان. تقول يلومها بعضهم بأنها لم تطلق رصاصة وتريد أن تكتب عن الحرب، ترد ربما كان ذلك أمراً حسناً، وتسأل أين ذلك الإنسان الذي يتألم لمجرد طرح فكرة الحرب؟ إنها لا تجده، لكنها رأت الجنود يتجمعون حول طائر ميت يحاولون معرفة فصيلته مُظهرين عليه الشفقة.
* يستهل الكتاب دخوله في زمن الحرب بمناجاة/شهادة أم نجا ابنها في أفغانستان، لكنه قَتَل أحدهم بسكين المطبخ فأودع السجن، فتطوف وتسال كل من تجده من الذين كانوا في الحرب، لماذا استطاع ابنها قتل إنسان؟ تجئ إجابتهم الباردة كما التالي: (معنى ذلك أنه وجد سبباً لذلك) وبعد سنوات يكتب لها ابنها من السجن أنه يكره ذلك الميت وتعرف أن الميت كذب بشأن حديثه حول أفغانستان. تقول لقد وُصِف أبناءنا بالأبطال لكن ابني (قاتل لأنه فعل هنا ماكانوا يفعلونه هناك، لماذا منحوهم الميداليات والأوسمة هناك، ولماذا حاكموه وحده ولم يحاكموا من أرسله هناك وعلَّمه كيفية القتل؟! أنا لم أعلّمه ذلك...) لقد أصبحتْ أم قاتل تقول إنها تحسد الأم التي عاد ابنها بلا ساقين، بل وتحسد إولئك الأمهات اللواتي يرقد أبناؤهن في القبور، إذ كانت ستجلس إلي جانب قبره سعيدة حاملة إليه الزهور.
* لايتذكر جندي شيئا بشكل منفرد، لكنه يتذكر وصايا عريفه وتعليماته، يقول: (عند تسلق الجبل إذا سقطت لا تصرخ. بل يجب أن تسقط صامتاً مثل حجر "حي". وبهذه الصورة يمكن أن تنقذ رفاقك) يقول لقد عاد من الحرب ودفن نفسه في الأحلام، لكنه يستقيظ أحيانا مرعوباً ولا يجد سلاحاً يطلق به النار على نفسه. وتُخبر إمراة كيف تعبت حتى تستلم جثمان زوجها، إذ كانت تتنقل من منطقة إلي أخرى بسبب خطأ في إرسال التابوت. تقول إنها عاشت بعد ذلك مع الذكريات، ثم رحلت مع إبنتها إلى مكان آخر، لكنها كانت تستيقظ في الصباح غارقة في العرق بسبب الرعب: (سيأتي بيتيا، بينما أنا وأوليتشكا نعيش في مكان آخر) طيلة ثمانية أعوام كان زوجها يأتيها في الأحلام وتقول له: (تزوجني مرة أخرى) تقول إنها أحبت زوجها حياً خمسة أعوام، بينما أحبته ميتاً ثمانية أعوام، تقول: (ربما أنا مجنونة..أنا أحبه).
* وفي نهاية الكتاب يُثبِّت المترجم عدداً من الوثائق حول المحاكمة التي تمت للمؤلفة، بعد أن قامت مجموعة من أمهات الجنود الذين قتلوا في افغانستان برفع دعوة قضائية ضدها، لأنها قدمت أولئك الجنود بخلاف مايعرف عنهم كأبطال، لكن المحكمة لم تثبت الإدانة بشكل كلي، بحجة أن الوقائع المنشورة لاتطابق الواقع. وفي كلمتها بخصوص المحاكمة تقول سفيتلانا أليكسييفتش إنها لم تكن تصدق بأنها سوف تتم، لكنها جاءت لتتبادل الحديث مع الأمهات وطلب المغفرة منهن، لأنه لا يمكن إيجاد الحقيقة بلا ألم، وتسأل (من نحن؟ ولماذا يمكن أن يفعلوا بنا أي شيء؟ إعادة الابن إلى الأم في تابوت من الزنك، ومن ثم إقناعها بأن تقيم الدعوي ضد الكاتبة التي كتبت كيف أنها - أي الأم - لم تستطع تقبيل ابنها في آخر مرة وغسله بالأعشاب... فمن نحن؟).