الثلاثاء، 28 يوليو 2020

سيرة ناجي العلي



الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر-بيروت
تاريخ النشر: 1999



* ناجي سليم حسين العلي (1937-1987) رسام كاريكاتير فلسطيني عظيم القدرات، وناقد جذري لأحوال السياسة وخروقات الساسة في الشرق الأوسط، فهو يقول (أنا منحاز لمن هم ضحايا الأكاذيب وأطنان التضليلات..أنا منحاز لمن ينامون في مصر بين القبور، ولمن يخرجون من حواري الخرطوم ليمزقوا بايديهم سلاسلهم، أنا منحاز للذين يقضون في لبنان ليلهم في شحذ السلاح..وأخيراً أنا منحاز لمن يقرأون كتاب الوطن في المخيمات) وفي هذا الكتاب بيان لمسيرة هذا الانحياز، من خلال تقديمه لسيرة ناجي العلي الفنية، مصحوبة بخلفيات تحليلية لأحداث ومعلومات تُضيء تبلور مفاهيمه السياسية/الاجتماعية حول مهمة الكاريكاتير ورؤيته لقضية فلسطين وبترول الخليج الذي دعم قوى اليمين العربي ولوحدة العرب.



* ضم الكتاب 167 لوحة/كاريكاتير من أعماله المُمجِدة للثورة وللثوار، والتي لم تتوقف يوماً عن توجيه سهام نقدها اللاذع لقيادات منظمة التحرير الفلسطينية ولإسرائيل وأمريكا ولحكومات الدول العربية، كرسمه، في نهاية ستينات القرن الماضي، تمثال الحرية، مُعيداً ترتيبه بما يتلاءم مع حقيقة أمريكا كما نعرفها اليوم، حيث قام بتبديل وجه المرأة الذي يرمز للحرية بوجه آخر شيطاني، وجعل الرئيس الأمريكي جونسون يجلس أعلى التمثال بملابس الكاوبوي، ونقش على الكتاب الذي يحمله التمثال قائمة بأسماء منتجات استهلاكية أمريكية شهيرة، ووضع في يد التمثال الأخرى بومة الخراب، بدلاً عن حملها لمشعل الحرية، وهناك لوحته الشاعرية المعبرة التي حيا فيها بيروت بعد الغزو الاسرائيلي لها في 1982.



* وفي المجمل لقد تتبع الكتاب هذه المسيرة منذ لقاء ناجي العلي بغسان كنفاني في 1962 وهو الذي كان وجهه للعمل في الصحافة، حيث بدأ عمله الصحافي/الفني لأول مرة  في الكويت، ثم في لبنان ولندن، التي أغتيل فيها سنة 1987 على يد شخص مجهول، لكن دائرة الاتهام تدور حول إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، وقد كانت الشرطة البريطانية القت القبض على عملاء مزدوجين يعملون مع الموساد وفي منظمة التحرير الفلسطينية، أُشتبه في تورطهم في هذه الجريمة. 



الأربعاء، 1 يوليو 2020

أصوات بديلة


  

اسم الكتاب: أصوات بديلة
المرأة والعرق والوطن في العالم الثالث
تحرير وتقديم: هدى الصدّة
ترجمة: هالة كمال
الناشر: المجلس الأعلى للثقافة- مصر
الطبعة: الاولى 2002




عرض: أسامة عباس

* هذا الكتاب (أصوات بديلة - المرأة والعرق والوطن في العالم الثالث) من تحرير وتقديم هدى الصدة* وترجمة هالة كمال** وقد صدر ضمن سلسلة المشروع القومي للترجمة في القاهرة في 2002 وهو عبارة عن مجموعة مقالات متفرقة حول مفهوم الحركة النسوية ومراحل تطورها والتحديات التي تواجهها وتياراتها المختلفة. وانا هنا اقوم بعرض ثلاث مقالات فقط من هذا الكتاب الذي شمل 15 مقالة ويقع في «492» صفحة من القطع الكبير، وكلها مقالات/صفحات تمتلك نفس الدرجة تقريبا من الأهمية والجاذبية.

ألست أنا أيضا امرأة؟!

* في مقالتها الافتتاحية «أصوات بديلة» المرأة والعرق والوطن، تحاول هدى الصدة الاشتباك مع السؤال الذي يتناسل اسئلة: هل النسوية اختراع غربي؟ وهل هي حبال  اخرى تطيل امد تبعيتنا للغرب؟ خاصة في ظل اختلال توازن القوة العالمية وانفراد الولايات المتحدة الاميركية بلقب الدولة العظمى الوحيدة، وضعف دول وشعوب ومثقفي ما يسمى بالعالم الثالث. وبالتالي، حسب هذه الافتراضات المؤلمة في قوة الغرب المطلقة وضعف الآخرين المطلق، تبرز اسئلة من نوع: كيف يمكن الحديث عن تفاعل بين الحضارات؟ وكيف يكون لـ «النسوية» دورها التحرري المرتجى؟ تقول هدي الصدة إن مثل هذه الاسئلة تتجاهل واقع الحياة والزمن وطبيعة صياغة الافكار وفقاً للمتغيرات الثقافية والزمانية والمكانية، وانتقال الافكار أو الاشخاص وما يحدثه من تفاعل وتأثير وتأثر، أو احلال وتبديل، أو استيعاب وتهجين، فتكون المحصلة النهائية لتلك العملية البالغة في التعقيد، شخصاً جديداً، أو فكرة مختلفة، أو نظرية معدلة، أو احتمالات اخرى مبتكرة، وفقاً لما تسميه بمفهوم الترددات. ولتصل لطرح سؤال آخر هو: ماذا حدث عندما انتقلت النظرية من بلد الى بلد آخر؟ وما هي المتغيرات التي طرأت عليها نتيجة تناولها من خلال رؤى وثقافات مختلفة؟ وتورد مثال الناقدة الأدبية الفرنسية جوليا كريستيفا، البلغارية الاصل ذات الاصول الفكرية والثقافية المختلفة، التي ساهمت في ما يسمى بـ النسوية الفرنسية، ولتتحقق بذلك مفاهيم نظرية قامت على تفاعل الاختلافات لا تصادمها، باعتبارها أساسا للتواصل، وذلك كما تقول «هدى الصدة» هو احد اهم اهداف اصدار هذا الكتاب، التعرف على الاتجاهات المبتكرة التي سارت فيها النسوية نتيجة لمساهمات باحثين وباحثات من كافة الجنسيات والثقافات.. يتبنون الفكر النسوي ويستخدمونه لنقد مواطن الخلل في ثقافاتهم أو في السياسات الثقافية السائدة في مجتمعاتهم، او نقد الممارسات الاستعمارية التي تمارسها بعض الدول الاستعمارية، أو الممارسات القهرية التي تنتهجها بعض الحكومات الاستبدادية، أو نقد السياسات العنصرية التي تميز ضد الناس بسبب اللون أو العرق او النوع الاجتماعي.. وفي بالها أيضا عدم امكانية الحديث عن نظرية نسوية واحدة او اتجاه نسوي واحد، لطبيعة اختلاف الثقافات وبالتالي الاهتمامات. ثم تبين هدى الصدة تطور حركة تحرير النساء، أو ما يُشار اليه بالموجة الاولى من النسوية، والتي بدأت في سنة 1830م واستمرت حتى 1920م، وحينها كان التركيز في الحصول على الحقوق المدنية للنساء في مجتمعاتهم، والتأكيد في المساواة مع الرجال. ثم جاءت الموجة الثانية في سنة 1963م مع ظهور كتاب «الغموض الانثوي»، للاميركية بيتي فريدان، وتتميز تلك الفترة بانتشار مجموعات النهوض بالوعي، وبدخول قضايا النسوية تدرجيا في المؤسسات الاكاديمية، ومواجهتهن للسؤال الاكاديمي، ما هي النسوية؟ وهل هي منهج بحثي ام اتجاه ايديولوجي ام نظرية علمية؟ وفي سبيل الاجابة اشتبكت النسوية مع النظرة الذكورية لدحض افتراضاتها المنحازة «التي دأبت على تجاهل وجهات نظر النساء وتجاربهن ولم تعتبرها مجالات معرفية ذات اهمية». وتتابع الصدة قولها عن مساهمة النسويات في نفض الغبار عن الادعاءات العتيدة في النظريات التقليدية للمعرفة حول حيادية الحقل العلمي، اذ «كشفت الباحثات النسويات عن الذاتية المضمرة في الابحاث العلمية التي تدعي الموضوعية، وبيّنَ كيف أن تلك المناهج الموضوعية تزكي وجهة نظر الذات الذكورية، فتقوم بعملية اقصاء لوجهات النظر الاخرى، منها وجهات نظر النساء ومجموعات مهمشة في المجتمع، وبهذا نجحت النسويات في طرح مفهوم مغاير للموضوعية، وهي الموضوعية التي لا تخفي ذاتية الباحث، وانما تقرها فتحدد موقعها الثقافي والسياسي». وفي جزء آخر من مقالتها الذي جاء بعنوان «ألست انا ايضا امرأة؟ النسوية والأم الهوية» تتحدث هدى: كان الافتراض السابق عند بداية الفكر النسوي ان تجارب النساء جميعا مشتركة، باعتبار القهر الذي يقع عليهن جميعا في المجتمعات المختلفة، بسبب من كونهن نساء، لكن الصرخة التي اطلقتها الاميركية السوداء «سوجورنر تروث» عندما وبخت النسويات البيض الناشطات في القرن التاسع عشر لتجاهلهن مشاكل واهتمامات النساء السود، اذ ذكرت لهن «ألست انا ايضا امرأة؟» ونبهت لوجود الاختلاف، واصبحت تلك الصرخة شعاراً تردده الناقدات النسويات من السود، وصدر عن مجموعة منهن في سنة 1974م بيان يؤكد على بلورة سياسات الهوية او الاخذ في الاعتبار بمسألة الاختلافات العرقية والطبقية والثقافية. وعلى هذا المنوال - كما تقول الصدة - قامت النسويات المنتميات الى ثقافات العالم المختلفة بتحدي التعريفات الراسخة لامرأة العالم الثالث في ادبيات النسوية الغربية، والنظر لموقعهن في التاريخ والمكان وعلاقتهن بالحركات الاجتماعية المختلفة من منطلق تجاربهن كنساء من العالم الثالث، الامر الذي خلق تراثا ثرا للحركة النسوية في كافة اقطار العالم، وجعلها بالتالي مؤهلة وقادرة على النظر في هذا التراث، ونقد ومراجعة بعض منطلقاتها ومذاهبها، ولتتبلور مفاهيم ومصطلحات تساعد في بناء الجسور عبر الثقافات المختلفة، وظهور مفهوم النسوية متعددة الثقافات او النسوية متعددة الجنسيات، واقتراح قيام مفهوم التحالفات متعددة الجنسيات كارضية مشتركة ممكنة بين النسويات.

الذكورة ليست في عضو الذكورة

* وفي مقالتها «المرأة السوداء وصياغة النظرية النسوية» تتحدث «بل هوكس» وهي اميركية سوداء، عن ان التوجه النسوي في الولايات المتحدة الاميركية لم يصدر ابداً عن النساء الاكثر معاناة.. واللائي يمثلن الاغلبية الصامتة.. وتنتقد في هذا السياق، كتاب «الغموض الانثويThe Feminine mystique لـ «بيتي فريدان» الذي صدر في الستينيات، وينظر اليه باعتباره قد مهد الطريق امام الحركة النسوية المعاصرة، وتقول عنه إنه كتاب جاء غفلا عن معاناة الكثير من النساء، وركز فقط على فئة مختارة من خريجات الجامعات المتزوجات والمنتميات للطبقتين العليا والوسطى من البيض، اي ركز على قضايا ربات البيوت اللاتي يشعرن بالملل من حياة الفراغ والبيت والاطفال. وهي مشاكل لا تنكرها هوكس، ولكنها - كما ترى - لا تمثل قضايا سياسية ضاغطة بالنسبة للقاعدة العريضة من النساء.. ويجيء اهتمام هوكس بكتابات بيتي فريدان لما تمثله الاخيرة من دور اساسي في تشكيل الفكر النسوي المعاصر، «فالنساء من البيض ممن يسيطرن على الخطاب النسوي الآن، مثلهن في ذلك مثل بيتي فريدان سابقاً، نادرا ما يتساءلن حول مدى صحة وجهة نظرهن بشأن واقع النساء ومدى قربها من تجارب حياة النساء عامة. بل انهن لا يدركن مدى ما يعكسه منظورهن من تحيزات عرقية وطبقية، مع الاشارة الى ظهور وعي اكبر بهذه التحيزات خلال السنوات القليلة الماضية».. اذ يتناسين دور الطبقة والعرق، الشيء الذي يعد أمراً مهماً لتحليل العلاقات الطبقية، ولدور العنصرية ووظيفتها في إطار مجتمع رأسمالي، لأن النضال ضد الطبقية- كما تقول هوكس- ملتحم بالنضال للقضاء على العنصرية. وتستمر تتحدث عن التأكيد على مقولة «كل النساء مقهورات».. وانها - هذه المقولة- من الركائز الاساسية للفكر النسوي، ولكن دون أن يوحي ذلك باشتراك جميع النساء في مصير واحد، لأن هناك عوامل مثل الطبقة والعرق والدين والميول الجنسية تؤدي في النهاية لتعدد في التجربة الحياتية وفي درجة التمييز والقهر الذي يعانين منه. وغياب المعرفة بهذا التعدد في التجارب الحياتية، هو ما يجعل بعض النساء المتمتعات ببعض الحرية في الاختيار يحسسن بعدم حاجتهن للانضمام او الاشتراك في العمل المنظم لمقاومة التمييز الجنسي، لانه -اي التمييز- لا يحرمهن من كافة الخيارات بصورة مطلقة، وهذا قد يؤدي بهن اولئك النساء- الى تصور عدم خضوع اية امرأة للقهر على الاطلاق، لذلك ان ما يجب هو: مواجهة هذا التمييز وهذا القهر معاً. وتزيد هوكس ان التركيز من قبل الفكر النسوي على وجود قهر مشترك على النساء في الولايات المتحدة الاميركية لم يستخدم كاستراتيجية لتسييس القضية- قضية النساء - وانما تم استغلاله سياسياً في سبيل استيلاء النساء المحافظات والليبراليات على مفردات ثورية بغرض صرف النساء عن صياغة دور تحرري جذري للحركة النسوية. وفي هذا السياق تسخر «بل هوكس» من بعض النساء اللائي يطلقن على انفسهن لقب النسويات رغم عدم معارضتهن للسلطة الابوية او الرأسمالية او الطبقية او العنصرية، اذ يكون هم مثل اولئك النساء الحصول على الامتيازات والمساواة مع الرجل، فالنسوية بقول احدى النسويات الاميركيات «لا تعني المظهر الذي يحقق النجاح، ولا يعني أن تصبح المرأة مديرة تنفيذية لشركة كبرى، او اكتساب منصب ما بالانتخاب. كما أن النسوية لا تعني القدرة على المشاركة في زواج مزدوج المهام، ثم أخذ إجازات التزحلق بفضل وجود خادمة تحقق لكِ ذلك، بينما تعجز الخادمة عن توفير الوقت والمال الكافي لتحقق الاشياء ذاتها لنفسها..». ثم تورد هوكس مقتطفا آخر لـ انطوانيت فوك النسوية الفرنسية: «ان الافعال التي قدمتها المجموعات النسوية هي أفعال مبهرة ومثيرة، الا ان الاثارة لا تؤدي سوى القاء الضوء على عدد من التناقضات الاجتماعية بعينها، حيث أنها لا تكشف عن التناقضات الجذرية داخل المجتمع ذاته. إذ تدعي النسويات أنهن لا يسعين الى المساواة بالرجال، إلا أن ممارساتهن تثبت العكس، فالنسويات يمثلن طليعة بورجوازية تعمل بصورة معكوسة للمحافظة على القيم السائدة. إن العمل بصورة معكوسة لا يسهل الانتقال إلى بناء مختلف، فالاصلاح يخدم الجميع! إن أنظمة البرجوازية والرأسمالية والمركزية الذكورية على استعداد لادماج النسويات داخل منظوماتها، وبما أن هؤلاء النساء يتحولن إلى رجال فالمحصلة النهائية لا تعني سوى المزيد من الرجال. إن الاختلاف بين الجنسين لا يعتمد على امتلاك الفرد عضو الذكورة، وانما يعتمد على مدى انتماء الفرد كجزء اساسي ضمن نظام الاقتصاد الذكوري.

 لكوني امرأة أنا بلا وطن؟!

* وفي مقالة اخرى «معارضة الثقافات: (التغريب) احترام الثقافات ونسويات العالم الثالث» لـ «اوما ناريان» وهي استاذة جامعية من الهند تعيش وتعمل في الولايات الامريكية، تقول: ليس من السهل أن تُعرف المرأة نفسها فكريا وثقافيا بأنها نسوية من العالم الثالث، مثلما هو الحال لأي هوية اخرى، كما انه ليس هناك اي خطأ دفين في مشروع شرح الذات هذا. وانهن كنسويات من العالم الثالث مطالبات بالشرح لموقعهن المشتبه من الآخرين، بأن آرائهن «انما هي آراء نخبة من النساء المحليات يرتدين قناعا ابيض اللون يسعين الى مهاجمة ثقافتهن غير الغربية على اساس من القيم الغربية» وتورد ثلاثة تناقضات سمتها كما يلي:

 الحديث والصمت باللغة الأم :

* في ربط بسيط وذكي بين امها وثقافتها الام، تبين اوما ناريان: كيف انها في طفولتها كانت تشعر بالخوف والشك ـ رغم ثقتها ـ عندما تنتقد توبيخ اهلها لها وكيف كانت امها تسألها معترضة «كيف لك ان تردي على والدك بهذا الاسلوب» نفس الام التي كانت تحكي لابنتها الصغيرة في حزن وغضب معاناتها من مضايقات حماتها وصمت زوجها الذي لم يكن ليتدخل. نفس الام كما تقول ناريان «التي كانت تشكو من اسكاتها، فرضت علي أنا الصمت والسكوت، حيث علمتني ان الابنة الطيبة هي التي تسكت وتقوم بما يجب عليها عمله، لان فشلي في الانصياع كان سيعني فشلها في تربيتي». مع ان بكاء امها وحكايات تعاستها هي ما دفعتها لتكون ما هي عليه الآن. وانه من هنا بدأ تغريبها، عندما رفضت أمها حقها في الرفض، ولتعلو الاصوات وتعلو متهمة اياهم بالتغريب والارتباط بالغرب. ويجيء هذا الاتهام من ضمن ما يجيء منهم ـ كما تقول ـ من رجال مثقفين يدينون في مواقفهم السياسية لنظريات سياسية ذات جذور غربية كالماركسية والليبرالية، ولتصل للقول ان الوطن والام اللذان رغبا في تعليمنا ودفعنا الى الامام ومنحنا الثقة، يحاولان في نفس الوقت فرض الانصياع والصمت علينا وانهما «والدتي والثقافة السائدة تنتقد الآثار المترتبة على ذلك النشاط الذي شجعتنا عليه، وكانت تقلق من ازدحام عقولنا بالافكار واصرارنا على توظيف المعرفة التي اكتسبناها من الكتب ومناقشة القواعد والانماط الاجتماعية السائدة في حياتنا» ، وتقول ان النظر الى ما تعبر عنه البنات النسويات على انه فقط مجرد انعكاس للتغريب ورفض لثقافاتنا انما يكشف عن عجز في ادراك هذه الثقافات – ثقافاتنا - ورحابة وتعقيد سياقاتها. وعن غياب الوعي عما يمثله الوطن او هذه الثقافات من حيز يتمتع فيه الاباء بالمزايا والسلطة، وان هذه الثقافات والامهات يتعاملون بمنطق مزدوج مع البنات والاولاد ويتوقعون ويفرضون مطالب مختلفة على الاولاد، عنها عن البنات. حتى تصل للقول: وفي هذا الاختلاف ـ بين الولد والبنت ـ يجب التفكير واعادة النظر في مفاهيم الانتماء والاندماج واعادة التعريف للولاء الثقافي والخيانة والاحترام و(( ان تكوين وجهة نظر خاصة تجاه الثقافة الام لا يقل اهمية وحتمية عن تكوين احساس خاص تجاه الام، وهي وجهات نظر تجمع مشاعر الحب والولاء جنبا الى جنب الانتقاد. فمثلما نجد انه نادرا ما تحكي البنات حكايات امهاتهن بنفس الطريقة التي تحكيها الامهات انفسهن فان البنات النسويات يحملن حكايات عن ثقافتهن الام تختلف كثيرا عن رؤية الثقافة لذاتها، ان اعادة سرد حكاية الثقافة الام من منظور نسوي هي مشروع سياسي، اي محاولة لمواجهة واعادة صياغة الحكايات السائدة...))

اعباء التاريخ: الاستعمار والوطنية والنسوية والتغريب :

* تسأل «اوما ناريان» لماذا تحمل بعض المصطلحات معاني سلبية في عدد من بلدان العالم الثالث ودائما ما ترتبط بالغرب والتغريب؟ وتتابع انه لا يمكن تفسير هذا الاستهجان دون الرجوع الى تاريخ الاستعمار الغربي في بلدان العالم الثالث: حين اتخذت صورة الاختلافات الثقافية بين الثقافة الغربية وثقافات مختلف مستعمرات العالم الثالث او الثقافات المحلية، شكلها في سياق الاستعمار وما تزال مستمرة في سياق ما بعد الاستعمار، ولتبلور بالتالي دول العالم الثالث هويتها الوطنية والثقافية على اساس من التضاد مع الممارسات الثقافية الغربية، او دول الغرب، التي كانت تسعى بدورها لـ «طمس بعض العادات والممارسات السائدة في المستعمرات والتحكم فيها بناء على تقييم الحكومات الاستعمارية الغربية لما هو مقبول او متوافق مع مصالحها». وتشير الى الاتفاق الذي يلحظ بين الحركات الوطنية المناهضة للاستعمار وقوى الاستعمار في التأكيد على الاختلافات الثقافية القائمة بينهما «وقد كان لكل من الطرفين المشاركين في هذه المواجهة اسبابه السياسية لاصراره على تحويل الثقافة المغايرة الى ثقافة «الآخر» وهي اختلافات قائمة بالفعل ولكن كثيرا ما خضعت للمبالغة في التأكيد على اوجه الاختلاف مع تجاهل اوجه الشبه ومواضع الاندماج». كما ان تحديد هذه الاختلافات الثقافية لم يكن يتمتع ابدا بوصف دقيق وصادق للقيم السائدة بالفعل، اذ نرى الثقافة الغربية نفسها ملتزمة بقيم الحرية والعدالة، وتدلل بها ـ هذه القيم ـ على تفوقها، بينما كانت القوى الغربية في نفس الوقت تمارس اعمال الرق والاستعمار. وفي الهند ـ بلد اوما ناريان ـ كانت الحركة الوطنية الهندية تستخدم مفهوم الثقافة الهندية ممثلا في الثقافة الهندوسية للطبقة الاجتماعية العليا فقط، مع تجاهلها لواقع التعددية الثقافية والدينية الفعلية لبقية السكان. ثم تتحدث عن الجدل والصراع الذي دار بين الغرب والحركة الوطنية الهندية، حول بعض الممارسات الهندية تجاه النساء، ليكون رد الاخيرة ان ذلك انما يمثل تراثا قديما ومكونا اصيلا للثقافة الهندية، لتضيع ـ كما تقول ناريان ـ في خضم تلك المواجهات بين الاجندات الاستعمارية والبرامج الوطنية المناهضة لها، كل حقوق النساء، ويصبح من المستحيل التوصل الى نقاشات حول الممارسات المحلية التي تؤثر على النساء. وان الاستعراض المتبادل لتفوق ثقافة على الاخرى، بين الغرب الاستعماري ذي التوجهات الذكورية والحركات الوطنية ذات نفس التوجهات، طغى على وضع النساء كمواطنات من الدرجة الثانية في تلك السياقات الثقافية الغربية والوطنية.

التسمية الانتقائية واسطورة الاستمرارية :

* تقول «اوما ناريان» ان الثقافات الوطنية في عديد من بلدان العالم تنظر لنفسها على انها ذات استمرارية غير متغيرة، وكأنها تؤكد على فكرة «التبجيل» والتي تقوم على الايحاء بأن قيمة الممارسات والمؤسسات المختلفة تنبع من مجرد قدمها وعراقتها. كما ان هذه الاستمرارية عادة ما تكون متخيلة، اذ يتم تبني ثقافة واحدة، اضافة لعدم اعترافها بحق النساء، على انها مجمل ثقافة البلد المعين، وان هذه الثقافة غير قابلة للتغيير. ودائما ما يكون للثقافة والتقاليد والقيم الوطنية خصائص واضحة ومتكررة في رفضها الانتقائي للحداثة والتغريب، في حين انها تتعامل مع بعض مظاهر الحداثة ( ان التسمية الانتقائية لبعض التغيرات دون غيرها باعتبارها مؤشرات للتغريب تتيح للاصوليين الهندوسيين وصم النسويات الغربيات وبرامج عملهن بانها من علامات التغريب، بينما يستعينون هم انفسهم بوسائل الاتصال المعاصرة كالتلفزيون لنشر رسائلهم الايديولوجية دون التوقف عند مدى تأثير دخول التلفزيون الى البيوت الهندية على "اسلوب الحياة التقليدية"..) الا عندما يدفع تغيير اسلوب الحياة التقليدية لجعل النساء يدافعن عن قضايا حرية النساء والمساواة. وتتابع ويبدو «التغريب» في احيان كثيرة كما لو كان مسمى بلاغيا ـ وليس وصفا دقيقا ـ يستخدم بانتقاء لوصم التغيرات التي تقوم بها النسويات من العالم الثالث. لتسأل: ما الذي يميز التغييرات التي تقوم بها النسويات عن كافة التغيرات والتعديلات التي تتم طوال الوقت؟! ما يميزهن ـ كما تقول ناريان ـ ان معظمهن شابات يحسن التعبير عن انفسهن ولسنا «بريئات» صامتات. الى ان تقول: «اننا نثير جوا من التوتر والمقاومة لاننا نصر على ان اختيارات النساء وسعادتهن لا بد وان تكون اكثر اهمية من المحافظة على التقاليد التي تتجاهل مصلحة هؤلاء النساء» لتختم مقالها بالتأكيد على النسويات: انه لا بد من مواجهة محاولات استبعاد الآراء النسوية في العالم الثالث، بالتأكيد على ان نقاشاتهن حول بعض جوانب ثقافاتنا انما تجيء من واقع خبراتهن كنساء، خبراتهن من ثقافاتنا وان جهدهن كأي جهد فكري قد يقوم على فرضيات خاطئة، الشيء الذي يجب ان يثير الحوار النقدي الجاد بدلا عن محاولات الاستبعاد. وان على النسويات القاء الضوء على أن تبجيل ثقافتهن وتقاليدهن واوطانهن ادى دائما لمطالبتهن بتأجيل التعبير عن القضايا التي تؤثر على النساء.

* واخيرا.. هل انا في حاجة لاقول ان غرضي من هذا العرض لم يكن ابدا تلخيص كتاب «أصوات بديلة: المرأة والعرق والوطن في العالم الثالث» انما كان غرضي الاخبار به وانه لا مناص لمن يريد او تريد الوقوف أكثر على هذا الامر، من قراءة هذا الكتاب.

جريدة الأضواء 2003
-------------------------

* هدى الصدة كاتبة من مصر وأكاديمية نسوية، تعمل أستاذة للأدب الإنجليزي والمقارن بجامعة القاهرة، وهي واحدة من مؤسسات مؤسسة المرأة والذاكرة.

** هالة كمال المترجمة أستاذة جامعية من مصر، لها عدد من الترجمات لأعمال نسوية كان شاغلها فيها الترجمة المُساهِمة في صياغة معرفة بديلة لتمكين النساء وتحقيق العدالة الإجتماعية.