الخميس، 23 سبتمبر 2021

الصفوة الأخرى

 

اسم الكتاب: ... ومنصور خالد

المؤلف: د. عبدالله علي إبراهيم

الناشر: دار المصورات للنشر والطباعة والتوزيع-الخرطوم

تاريخ النشر: 2018




عرض: أسامة عباس

* في نهاية سبعينات القرن الماضي أصدر منصور خالد (1931-2020) كتابه (حوار مع الصفوة) وكانت مجموعة من مقالاته نُشرت قبل ذلك التاريخ، ليَشيع بعدها مصطلح الصفوة بدلاً عن البورجوازية أو البورجوزاية الصغيرة، كما في لغة اليسار وتوصيفه لهذه الطبقة، وتابع منصور خالد في كتبه التالية نظره نحو هذه الطبقة، وأدخل معظم نخبتها في دائرة الزمرة الفاشلة، كما جاء في كتابه (النخبة السودانية وإدمان الفشل) الذي شاع وراج بين الناس كعنوان وكتوصيف ناجز يصِم صفوة متعلمي السودان، وفي هذا الكتاب (... ومنصور خالد) يُصوب عبدالله على إبراهيم نظره نحو صفوة أخرى، قوامها شيوعيين وعمال سودانيين، لم تفشل ولم ينظر إليها منصور خالد حينما أطلق تعميمه الذي شاع حول فشل النخبة السودانية.

* ويُذكَّر عندما نُشرت مقالات هذا الكتاب متسلسلة أول مرة في 2005 توقف بعضهم عند المقالة التي تحدثت عن عمالة منصور خالد للأمريكان، ورددوا يومها إن المؤلف إنما يريد فقط أن يُبخس من نجومية منصور خالد، بل وطعنوا في مصداقيته الأكاديمية، وقد رد المؤلف على ذلك في خاتمة كتابه، لكن مغزى الكتاب أو أهميته لاتكمن في ورود مثل هذه المعلومة، وان كانت تشرح الكثير عن بداية أو كيفية صعود نجم منصور خالد، وانما تكمن في تناوله لمسيرة منصور خالد الفكرية في ارتباطها بمسيرة طبقة من المتعلمين، ناجزت الطائفية العداء ثم بادلتها الود وأضعفت سلطانها حتى قاسمتها أخيراً الثروة والجاه، وكان منصور خالد حادي هذه الطبقة، التي تزعم لنفسها إمتلاك رؤية؛ معالمها قيم الديمقراطية والمساواة، ولكنها ما أن تملك السطان تصبح ذات رؤيتها هذه عدوها المقيت، وقد طال مقتها وامتدت عداوتها لمنصور خالد نفسه.

* ولتتبع هذه المسيرة يعود المؤلف لبدايات صعود نجم منصور خالد حينما عمل سكرتيراً خاصاً لرئيس الوزراء ووزير الدفاع (1956-1958) عبدالله خليل، الذي كان يواجه يومها العزلة والمتاعب، فدفعه ذلك ليشير للجيش بتكوين حكومة طوارىء قوامها مدينيين وعسكريين، بيد أن الجيش قام بتكوين مجلس عسكري وانفرد بالسلطة، وقد نظر المؤلف في ملابسات تلك الوقائع وفي دوافع ضباط الجيش، ليقول بخطل نظرية (التسليم والتسلم) الرائجة، ثم تابع حديثه عن منصور خالد، الذي عمل في جريدة الناس لسان حال عبدالله خليل سيئة السمعة، وبرأيه وبعد اطلاعه على ارشيفها، أن منصور كان رئيس تحريرها الفعلي رغم احتجاب اسمه عنها، إذ يظهر فيها أسلوبه/توقيعه الذي نعرفه اليوم، وقد أخد المؤلف من ضمن ماأخذه على الجريدة أو على منصور، تلك الحملات التي كانت ضد اسماعيل الأزهري وآخرين، آخذاً عليه طعنها في هويتهم واشاراتها العنصرية بإنهم ليسوا عرباً، وهو الذي انضم لاحقاً للحركة الشعبية لينقذ عرب السودان المسلمين من عنصريتهم وليعانق الجنوبيين.

* وفي قول المؤلف ان انضمام منصور خالد للحركة الشعبية كان أقرب إلى اللجوء السياسي منه إلى (عناق الآخر) وقد زادت حلقات عزلته وسط النخب الشمالية يومها، أيام انتفاضة أبريل 1985، ثم يتابع المؤلف في تحليل ثقافي لبعض ماكتبه منصور في تلك الفترة، ليظهر فيما كتبه ذات تلك الحمولة العنصرية التي شابت حملاته في جريدة الناس، ليقول بإن كثير من المهاجرين الشماليين إلى الحركة، إنما كانت هجرتهم إلى أنفسهم، فالهجرة أو عناق الآخر ليس معناه أن تتنكر لرهطك، وإنما في الاستعداد لدفع الثمن الباهظ ليتسرب وعيك الجديد هذا لأفئدة وعقول أهلك، ولينعم الجميع بالمساواة في ظل دولة الديمقراطية المستدامة، ولأن الآخر ربما لايحتاج أن تهاجر إليه بقدميك، كما يقول المؤلف، مُشيراً لستيف بيكو قتيل نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، الذي كان يقول ليساريِّ بلده البيض حرروا أنفسكم حتي لاتكونوا عبئاً علينا، ولكن منصور خالد، زعيم أولئك المهاجرين، في قول المؤلف، لم يفعل ذلك ولم يرى في كل طوائف وشيع وأحزاب السودان الشمالي إلا كياناً واحداً عنصرياً مدمناً للفشل، بحسب مقولته تلك الرائجة.

* وبرأي المؤلف إن تلك المقولة عن فشل النخبة الشمالية باطلة، لجهة تعميمها وقد أغفلت أن بين أولئك المسلمين العرب السودانيين، كان هناك شيوعيين يقفون ضد العنصرية ويحلمون بسودان جديد، منذ خمسينات القرن الماضي، يزول فيه نير التهميش، وكان من كثير مافعلوه وقفة نائبهم، في برلمان 1955، الشيوعي حسن الطاهر زروق، لمناقشة مشروع دستور السودان المؤقت في فصله الثاني الذي يقول بعدم حرمان أي سوداني من تقلد المناصب بسبب المولد أو الدين أو النوع، وقف زروق ليقدح في مآل هذا الفصل عند تطبيقه العملي، مشيراً لوجود آلاف العاطلين وقلة أجور النساء مقارنة بالرجال والعاملين في الجنوب مقارنة بالشمال، وقد اعترض رئيس البرلمان بابكر عوض الله على ذلك بأنه خارج موضوع المناقشة، وبرأي المؤلف لقد حملت تلك المناقشة الفرق في الرؤى بين رؤيتين للسودان، بين الطبقة العاملة والبورجوازية، بين بشائر زروق للمواطنة الشاملة وعمى بابكر عوض الله، الذي لم يستطع أن يربط بين وجود العاطلين وغمط النساء والجنوبين أجورهم، وبين مادة الدستور التي يجب عليها كفالة المواطنة المتساوية بغض النظر عن العرق والجنس والدين.

* ويختم المؤلف كتابه بقراءته لورقة كان قدمها منصور خالد لمؤتمر (الحداثة وصناعة الهوية في السودان: استذكار الستينات والسبعينات) عُقد في أبريل 2015 بالشارقة، وقد عرض فيها أراء لمحمد أحمد محجوب في مقالته (الحركة الفكرية في السودان: إلى أين يجب أن نتجه؟) التي نشرت في أربعينات القرن الماضي، ويقول المؤلف إن أفضل مدخل لتقييم ورقة منصور تلك، هو النظر في استجابة الحاضرين لتلك الورقة/الكلمة الذين كانوا يضحكون ويصفقون بين كل كلمة واخرى، وهو الشيء الذي لايقع إلا لكوميديان وليس لمحاضر، والسبب في ذلك كما يرى أن منصور خالد بعد تحوله للحركة الشعبية قد أخذ في إخذاء المسلمين الشماليين، ويقوم في هذا الطقس ب"كشف المستور" لطائفة من الإسلاموعروبيين تستمع ضاحكة لمن يدعك لها الملح في سجل خذى أجدادها، معوضين بذلك عن فشلهم في صناعة تاريخ أفضل للإخاء الوطني، ثم يتابع حديثه بإنه كان من الأفضل، لو صح عزم منصور خالد أن يقدم أراءه هو حول الهوية، التي رددها في سبيعنات القرن الماضي وقد استمدها من محمد أحمد محجوب، بدلاً عن شواء المحجوب في روتين للهرج بالهوية.


الجمعة، 10 سبتمبر 2021

جمال محمد أحمد

 




* جمال محمد أحمد (1915-1986) دبلوماسي وكاتب موسوعي المعرفة، ولد في سَرّة شرق ناحية حلفا القديمة، جمعت مؤلفاته في وحدة أسلوبية وابداعية متميزة بين التأريخ والفكر والأدب والترجمة، وقد زاوج بسلاسة، في سابقة نادرة الحدوث وقليلة النجاح، بين مهمة الكاتب ومهمة الوظيفة، إذ جَسّر بين المهمتين ليجعل منهما سهماً واحداً ينطلق نحو مايراه أو مايريده من أهداف وغايات، وفي هذا الكتاب نقترب أكثر من حياته ونعرف عظمة تأثيره وفيض سخاءه، خاصة رقته ولطفه مع أبناءه وأصدقاءه، الذي تُخبر به رسائل وأوراق هذا الكتاب، يقول الطيب صالح في تقديمه ( في الرسائل يكون جمال على سجيته تماماً، يذهب من موضوع الى موضوع، وينتقل من الخاص الى العام، من المهم الى العادي، بأسلوبه العجيب الذي تميَّز به) ومثلاً في رسالة الى أحد اصدقاءه، طال بينهما عدم التراسل، يكتب له ( أي شقيقي سارع بالكتابة إليّ ولاتنسى اني أحقد عليك أنك آثرت علي كثيراً من الأصدقاء، اني احقد عليك هذا واغبطهم عليه..) وفي رسالة اخرى لإبنته العائدة لتقضي إجازتها في السودان، يكتب إليها وقد كانت مترددة في زيارة بعضهم لموقف ما حدث، يشير لها في اسلوب حميم ونافذ، دأبه في كل رسائله، يشير عليها ان تفعل مايرضيها، ويقترح ان تذهب إذا وجدت ميلاً لذلك، أو لاتذهب إذا كان ذلك يثير غيظها أو يثير لديها ذكرى حزينة، لم يشمل الكتاب رسائل كثيرة كانت ستلبي طمع الذين سيريدون المزيد، ولعل ذلك مادفع الطيب صالح ليقول إنه حينما فرغ منها أحس بالأسف لأنها لم تلبث فترة أطول، لكن هذه الرسائل رغم قلتها جالت حول موضوعات عديدة ومتنوعة، ففي رسالة حول تهجير آهالي وادي حلفا أهله، وكان يومها سفيراً للسودان في أديس أبابا، يكتب لواحد من المسئولين، ينبهه لعدم الجزع من عدم اتفاق اهالي حلفا حول المنطقة التي يجب أن يرحلوا اليها، لأن لكل طرف من الأطراف المختلفة مصلحة حقيقية يدافع عنها، ثم يشرع في تقديم نصحه واقتراحاته بعد اطلاعه المثابر على المعلومات والتقارير المتعلقة بقضية التهجير، وبعد عقده للقاءات وحوارات مع أطراف مختلفة للمزيد من اكتمال معرفته، ناصحاً بضرورة أن تخبر الحكومة المواطنين عما تريده فعله من خطوات، كما تحدثت الرسائل عن الدبلوماسية وتقاليدها والآفاق السياسية التي يمكن أن تفتحها أمام السودان الذي يربطه الكثير بأفريقيا وبالعالم العربي، كما شمل الكتاب اضافة لرسائله للأسرة وإلي أصدقاءه، أخباراً عن مجهودته المحلية والإقليمية والدولية وأحاديث أجراها معه المؤلف عثمان محمد الحسن، وهو أحد أصفياء وتلاميذ جمال م أحمد. صدرت هذه الطبعة في 1992 عن دار الجيل في بيروت-لبنان.