الثلاثاء، 28 ديسمبر 2021

الغضب والأمل


اسم الكتاب: شبكات الغضب والأمل

الحركات الاجتماعية في عصر الإنترنت

الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات-الدوحة

تاريخ النشر: 2017




"نحن بطئيون لأننا ذاهبون بعيداً"

من شعارات الاحتجاجات الإسبانية 2011


* أكثر من خمسة عشرة حركة احتجاجية أو اجتماعية يرصدها هذا الكتاب، في تونس وأيسلندا ومصر وإسبانيا والولايات المتحدة الأمريكية وتركيا وتشيلي والبرازيل، يرصدها/يدرسها كحركات جديدة نشأت في ظل إثنين من القواسم/العوامل المشتركة، ويتمثل الأول في وجود أزمة جوهرية في شرعية النظام السياسي وازدراء للأحزاب السياسية، وقد أصبح السياسيين نوع من طبقة مغلقة ترعى مصالحها بدلاً عن تمثيل الشعب، ويتمثل العامل الثاني في امتلاك هذه الحركات لقدرة تواصلية مستقلة مكنتها من الربط بينها وبين المجتمع، إذ دمجت بين الفضاء الإلكتروني والحيز الجغرافي، وهو ماأتاح لها الفرصة لإعادة صياغة الرسائل والدلالات في مواجهة سيطرة الحكومات/الشركات التي تحتكر قنوات الاتصال وصياغة القيم، وليُشكل هذا الاستخدام لشبكات الانترنت، برأي المؤلف، أحد خصائص هذه الحركات الاجتماعية الشبكية الجديدة، إضافة لخصائص أخرى كانطلاقها أول الأمر في شبكة الإنترنت، ثم تحولها إلى حركة باحتلالها لحيز حضري، عبر الاعتصامات أو بالتظاهرات المستمرة في الشوارع، ومن الخصائص الأخرى أن صنع القرار يتم عبر مجالس أو لجان، وأنها في العادة حركات بلا قيادة، وليس ذلك لنقص القادة، ولكن لمقت عفوي وعميق وانعدام ثقة تجاه أي شكل من أشكال سلطة التفويض، كما أنه نادراً ماتكون لهذه الحركات برامج، اللهم إلا في حالة التركيز على قضية واحدة واضحة ك: إسقاط النظام الدكتاتوري، أو مطالب متعددة لترقية أحوال حياتهم، ويقول المؤلف عن هذا الرفض المطلق للعملية السياسية بصيغتها الموجودة اليوم، انه تعبير عن قوة توحد الغضب والأحلام عند هذه الحركات، فهي لا تقدم مطالب ولكنها تريد كل شيء من مجتمع مختلف وجديد، ولعل ذلك ماعبر عنه أحد الثوار في السودان حين قال (نريد الحديقة كلها) ويختم المؤلف بالقول إن هذه الحركات سوف تستمر، طالما هناك هذه الأزمات والصراعات المتصاعدة، وهناك هذه المؤسسات السياسية غير الفاعلة وغير الشرعية، في أذهان مواطنيها، إضافة إلى أن العقول تفتحت بفعل رياح حرية الاتصال وممارسات شباب لا يعرف الخوف.



الأربعاء، 6 أكتوبر 2021

أثر عنايات الزيات

 



* في ستينات القرن الماضي قَدّمت عنايات الزيات (1936-1963) مخطوطة روايتها (الحب والصمت) للنشر لكنها رُفِضت، فنشرتها دار نشر أخرى بعد أربع سنوات من انتحارها، وفي تسعينات القرن الماضي ذهبت إيمان مرسال لسور الأزبكية، سوق الكتاب المستعمل الشهير الموجود في القاهرة، للبحث عن كتاب بعينه، فأثارت فضولها (الحب والصمت) هذه الرواية التي لم تسمع بها من قبل ولا باسم كاتبتها، وزادت فتنتها بالرواية بعد قراءتها، لتبدأ رحلتها في هذا الكتاب متتبعة لطيف عنايات الزيات، باحثة عن مكان قبرها وعن صديقتيها مِسيار النحاس ونادية لطفي الممثلة المعروفة وشقيقتها عظيمة عباس الزيات، وباحثة في الإرشيف الفقير أو المدمر، الموجود بالصحافة المصرية أو لدي معارف وأقرباء عنايات الزيات، وقد غفل هذا الارشيف عن ذكرها وهي المستحقة لتكون موجودة في ارشيف الرواية العربية أو كتابة المرأة العربية، كما تشير المؤلفة التي تقول إن تدمير ارشيف الزيات الشخصى بدأ لها أول الأمر ككارثة، لكن غيابه حررها لتجعل من لحظة تقاطعهما دليلها الروحي في هذه الكتابة، بدلاً عن العرض المسطح لحياتها، وبالفعل استطاع هذا الكتاب، الذي زواج بين البحث الاستقصائي والسرد الروائي، استطاع أن يقدم مادة شيقة وكاشفة عن ملابسات أو تقاطعات في حياة كاتبة وأم، في مجتمع ذكوري، يناوش حياتها الاكتئاب، وكانت تنتظر يومياً خلال شهور طويلة الرد بالموافقة على نشر روايتها، وتواجه التهديد بنزع حضانة طفلها منها بأمر المحكمة. إيمان مرسال شاعرة وأكاديمية مصرية تقيم في كندا، وقد صدرت طبعة كتابها هذا، وهي الطبعة الخامسة، في 2021 عن الكتب خان للنشر والتوزيع-القاهرة.


الخميس، 23 سبتمبر 2021

الصفوة الأخرى

 

اسم الكتاب: ... ومنصور خالد

المؤلف: د. عبدالله علي إبراهيم

الناشر: دار المصورات للنشر والطباعة والتوزيع-الخرطوم

تاريخ النشر: 2018




عرض: أسامة عباس

* في نهاية سبعينات القرن الماضي أصدر منصور خالد (1931-2020) كتابه (حوار مع الصفوة) وكانت مجموعة من مقالاته نُشرت قبل ذلك التاريخ، ليَشيع بعدها مصطلح الصفوة بدلاً عن البورجوازية أو البورجوزاية الصغيرة، كما في لغة اليسار وتوصيفه لهذه الطبقة، وتابع منصور خالد في كتبه التالية نظره نحو هذه الطبقة، وأدخل معظم نخبتها في دائرة الزمرة الفاشلة، كما جاء في كتابه (النخبة السودانية وإدمان الفشل) الذي شاع وراج بين الناس كعنوان وكتوصيف ناجز يصِم صفوة متعلمي السودان، وفي هذا الكتاب (... ومنصور خالد) يُصوب عبدالله على إبراهيم نظره نحو صفوة أخرى، قوامها شيوعيين وعمال سودانيين، لم تفشل ولم ينظر إليها منصور خالد حينما أطلق تعميمه الذي شاع حول فشل النخبة السودانية.

* ويُذكَّر عندما نُشرت مقالات هذا الكتاب متسلسلة أول مرة في 2005 توقف بعضهم عند المقالة التي تحدثت عن عمالة منصور خالد للأمريكان، ورددوا يومها إن المؤلف إنما يريد فقط أن يُبخس من نجومية منصور خالد، بل وطعنوا في مصداقيته الأكاديمية، وقد رد المؤلف على ذلك في خاتمة كتابه، لكن مغزى الكتاب أو أهميته لاتكمن في ورود مثل هذه المعلومة، وان كانت تشرح الكثير عن بداية أو كيفية صعود نجم منصور خالد، وانما تكمن في تناوله لمسيرة منصور خالد الفكرية في ارتباطها بمسيرة طبقة من المتعلمين، ناجزت الطائفية العداء ثم بادلتها الود وأضعفت سلطانها حتى قاسمتها أخيراً الثروة والجاه، وكان منصور خالد حادي هذه الطبقة، التي تزعم لنفسها إمتلاك رؤية؛ معالمها قيم الديمقراطية والمساواة، ولكنها ما أن تملك السطان تصبح ذات رؤيتها هذه عدوها المقيت، وقد طال مقتها وامتدت عداوتها لمنصور خالد نفسه.

* ولتتبع هذه المسيرة يعود المؤلف لبدايات صعود نجم منصور خالد حينما عمل سكرتيراً خاصاً لرئيس الوزراء ووزير الدفاع (1956-1958) عبدالله خليل، الذي كان يواجه يومها العزلة والمتاعب، فدفعه ذلك ليشير للجيش بتكوين حكومة طوارىء قوامها مدينيين وعسكريين، بيد أن الجيش قام بتكوين مجلس عسكري وانفرد بالسلطة، وقد نظر المؤلف في ملابسات تلك الوقائع وفي دوافع ضباط الجيش، ليقول بخطل نظرية (التسليم والتسلم) الرائجة، ثم تابع حديثه عن منصور خالد، الذي عمل في جريدة الناس لسان حال عبدالله خليل سيئة السمعة، وبرأيه وبعد اطلاعه على ارشيفها، أن منصور كان رئيس تحريرها الفعلي رغم احتجاب اسمه عنها، إذ يظهر فيها أسلوبه/توقيعه الذي نعرفه اليوم، وقد أخد المؤلف من ضمن ماأخذه على الجريدة أو على منصور، تلك الحملات التي كانت ضد اسماعيل الأزهري وآخرين، آخذاً عليه طعنها في هويتهم واشاراتها العنصرية بإنهم ليسوا عرباً، وهو الذي انضم لاحقاً للحركة الشعبية لينقذ عرب السودان المسلمين من عنصريتهم وليعانق الجنوبيين.

* وفي قول المؤلف ان انضمام منصور خالد للحركة الشعبية كان أقرب إلى اللجوء السياسي منه إلى (عناق الآخر) وقد زادت حلقات عزلته وسط النخب الشمالية يومها، أيام انتفاضة أبريل 1985، ثم يتابع المؤلف في تحليل ثقافي لبعض ماكتبه منصور في تلك الفترة، ليظهر فيما كتبه ذات تلك الحمولة العنصرية التي شابت حملاته في جريدة الناس، ليقول بإن كثير من المهاجرين الشماليين إلى الحركة، إنما كانت هجرتهم إلى أنفسهم، فالهجرة أو عناق الآخر ليس معناه أن تتنكر لرهطك، وإنما في الاستعداد لدفع الثمن الباهظ ليتسرب وعيك الجديد هذا لأفئدة وعقول أهلك، ولينعم الجميع بالمساواة في ظل دولة الديمقراطية المستدامة، ولأن الآخر ربما لايحتاج أن تهاجر إليه بقدميك، كما يقول المؤلف، مُشيراً لستيف بيكو قتيل نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، الذي كان يقول ليساريِّ بلده البيض حرروا أنفسكم حتي لاتكونوا عبئاً علينا، ولكن منصور خالد، زعيم أولئك المهاجرين، في قول المؤلف، لم يفعل ذلك ولم يرى في كل طوائف وشيع وأحزاب السودان الشمالي إلا كياناً واحداً عنصرياً مدمناً للفشل، بحسب مقولته تلك الرائجة.

* وبرأي المؤلف إن تلك المقولة عن فشل النخبة الشمالية باطلة، لجهة تعميمها وقد أغفلت أن بين أولئك المسلمين العرب السودانيين، كان هناك شيوعيين يقفون ضد العنصرية ويحلمون بسودان جديد، منذ خمسينات القرن الماضي، يزول فيه نير التهميش، وكان من كثير مافعلوه وقفة نائبهم، في برلمان 1955، الشيوعي حسن الطاهر زروق، لمناقشة مشروع دستور السودان المؤقت في فصله الثاني الذي يقول بعدم حرمان أي سوداني من تقلد المناصب بسبب المولد أو الدين أو النوع، وقف زروق ليقدح في مآل هذا الفصل عند تطبيقه العملي، مشيراً لوجود آلاف العاطلين وقلة أجور النساء مقارنة بالرجال والعاملين في الجنوب مقارنة بالشمال، وقد اعترض رئيس البرلمان بابكر عوض الله على ذلك بأنه خارج موضوع المناقشة، وبرأي المؤلف لقد حملت تلك المناقشة الفرق في الرؤى بين رؤيتين للسودان، بين الطبقة العاملة والبورجوازية، بين بشائر زروق للمواطنة الشاملة وعمى بابكر عوض الله، الذي لم يستطع أن يربط بين وجود العاطلين وغمط النساء والجنوبين أجورهم، وبين مادة الدستور التي يجب عليها كفالة المواطنة المتساوية بغض النظر عن العرق والجنس والدين.

* ويختم المؤلف كتابه بقراءته لورقة كان قدمها منصور خالد لمؤتمر (الحداثة وصناعة الهوية في السودان: استذكار الستينات والسبعينات) عُقد في أبريل 2015 بالشارقة، وقد عرض فيها أراء لمحمد أحمد محجوب في مقالته (الحركة الفكرية في السودان: إلى أين يجب أن نتجه؟) التي نشرت في أربعينات القرن الماضي، ويقول المؤلف إن أفضل مدخل لتقييم ورقة منصور تلك، هو النظر في استجابة الحاضرين لتلك الورقة/الكلمة الذين كانوا يضحكون ويصفقون بين كل كلمة واخرى، وهو الشيء الذي لايقع إلا لكوميديان وليس لمحاضر، والسبب في ذلك كما يرى أن منصور خالد بعد تحوله للحركة الشعبية قد أخذ في إخذاء المسلمين الشماليين، ويقوم في هذا الطقس ب"كشف المستور" لطائفة من الإسلاموعروبيين تستمع ضاحكة لمن يدعك لها الملح في سجل خذى أجدادها، معوضين بذلك عن فشلهم في صناعة تاريخ أفضل للإخاء الوطني، ثم يتابع حديثه بإنه كان من الأفضل، لو صح عزم منصور خالد أن يقدم أراءه هو حول الهوية، التي رددها في سبيعنات القرن الماضي وقد استمدها من محمد أحمد محجوب، بدلاً عن شواء المحجوب في روتين للهرج بالهوية.


الجمعة، 10 سبتمبر 2021

جمال محمد أحمد

 




* جمال محمد أحمد (1915-1986) دبلوماسي وكاتب موسوعي المعرفة، ولد في سَرّة شرق ناحية حلفا القديمة، جمعت مؤلفاته في وحدة أسلوبية وابداعية متميزة بين التأريخ والفكر والأدب والترجمة، وقد زاوج بسلاسة، في سابقة نادرة الحدوث وقليلة النجاح، بين مهمة الكاتب ومهمة الوظيفة، إذ جَسّر بين المهمتين ليجعل منهما سهماً واحداً ينطلق نحو مايراه أو مايريده من أهداف وغايات، وفي هذا الكتاب نقترب أكثر من حياته ونعرف عظمة تأثيره وفيض سخاءه، خاصة رقته ولطفه مع أبناءه وأصدقاءه، الذي تُخبر به رسائل وأوراق هذا الكتاب، يقول الطيب صالح في تقديمه ( في الرسائل يكون جمال على سجيته تماماً، يذهب من موضوع الى موضوع، وينتقل من الخاص الى العام، من المهم الى العادي، بأسلوبه العجيب الذي تميَّز به) ومثلاً في رسالة الى أحد اصدقاءه، طال بينهما عدم التراسل، يكتب له ( أي شقيقي سارع بالكتابة إليّ ولاتنسى اني أحقد عليك أنك آثرت علي كثيراً من الأصدقاء، اني احقد عليك هذا واغبطهم عليه..) وفي رسالة اخرى لإبنته العائدة لتقضي إجازتها في السودان، يكتب إليها وقد كانت مترددة في زيارة بعضهم لموقف ما حدث، يشير لها في اسلوب حميم ونافذ، دأبه في كل رسائله، يشير عليها ان تفعل مايرضيها، ويقترح ان تذهب إذا وجدت ميلاً لذلك، أو لاتذهب إذا كان ذلك يثير غيظها أو يثير لديها ذكرى حزينة، لم يشمل الكتاب رسائل كثيرة كانت ستلبي طمع الذين سيريدون المزيد، ولعل ذلك مادفع الطيب صالح ليقول إنه حينما فرغ منها أحس بالأسف لأنها لم تلبث فترة أطول، لكن هذه الرسائل رغم قلتها جالت حول موضوعات عديدة ومتنوعة، ففي رسالة حول تهجير آهالي وادي حلفا أهله، وكان يومها سفيراً للسودان في أديس أبابا، يكتب لواحد من المسئولين، ينبهه لعدم الجزع من عدم اتفاق اهالي حلفا حول المنطقة التي يجب أن يرحلوا اليها، لأن لكل طرف من الأطراف المختلفة مصلحة حقيقية يدافع عنها، ثم يشرع في تقديم نصحه واقتراحاته بعد اطلاعه المثابر على المعلومات والتقارير المتعلقة بقضية التهجير، وبعد عقده للقاءات وحوارات مع أطراف مختلفة للمزيد من اكتمال معرفته، ناصحاً بضرورة أن تخبر الحكومة المواطنين عما تريده فعله من خطوات، كما تحدثت الرسائل عن الدبلوماسية وتقاليدها والآفاق السياسية التي يمكن أن تفتحها أمام السودان الذي يربطه الكثير بأفريقيا وبالعالم العربي، كما شمل الكتاب اضافة لرسائله للأسرة وإلي أصدقاءه، أخباراً عن مجهودته المحلية والإقليمية والدولية وأحاديث أجراها معه المؤلف عثمان محمد الحسن، وهو أحد أصفياء وتلاميذ جمال م أحمد. صدرت هذه الطبعة في 1992 عن دار الجيل في بيروت-لبنان.

 

الاثنين، 2 أغسطس 2021

الدفتر الذهبي

 



* دوريس ليسينج (1919-2013) روائية بريطانية عاشت جزءاً من طفولتها ومعظم شبابها في روديسيا/زيمبابوي، إذ انتقلت إليها مع والديها في السادسة من عمرها وغادرتها في عمر الثلاثين لتعيش في بريطانيا برفقة طفلها وصيت روايتها الأولى (العشب يغني) وهو نفس الحال الذي عليه شخصية روايتها الرئيسية آنا وولف التي تعيش مع إبنتها في لندن بفضل مبيعات روايتها (حدود الحرب) وفي رواية (الدفتر الذهبي) تقدم ليسينج تحت عنوان ثابت (حكاية امرأتين مع الحرية) تكرر خمس مرات بمثابة فصول، تقدم حكاية أو تجربة آنا ومولي الصديقتان اليساريتان في خمسينات القرن الماضي، ومولي ممثلة مسرح وناشطة سياسية تعيش منفصلة عن زوجها برفقة إبنها الشاب تومي، بيد أن الرواية تركز  أكثر على آنا وولف وعلى حياتها الداخلية، إذ تكتب آنا يومياتها في أربعة دفاتر بالوان مختلفة، هكذا جعلتهم دفاتر منفصلة حتى لاتزدحم الأفكار وتعم الفوضى كما تقول، وفيهم تنقل تجربة حياتها، خاصة عملها السياسي في بريطانيا وفي افريقيا التي عاشت فيها فترة من الزمن، كما تخبر عن علاقتها أو رؤيتها للرجال الذي عاشرتهم، وترصد تقلبات مزاجها وتبدل أحوالها الذهنية وعلاقتها مع ابنتها جانيت، لتشكل الدفاتر رواية داخل رواية، تدور حول حياة/تجربة امرأة حرة وكاتبة وأم تنخرط في قضايا مجتمعها وتحاول لملمة أطراف تشتتها، وقد أخبرت الرواية بذلك عن الكثير، مثلاً عن الإنقسام الذي يمسك بروح المرء الذي يهجس بالتغيير، وعن أزمة اليسار التي تكشفت في أوروبا منذ خمسينات القرن الماضي، وعن العلاقة بين المرأة والرجل، حتى ليُعِد كثيرون اليوم (الدفتر الذهبي) من الكتابات النسوية المُبجلة، بالرغم من تحفظ المؤلفة التي تقول؛ حصر الكثير من النقاد نظرتهم للرواية، عند صدورها في ستينات القرن الماضي، حصروها في فكرة الصراع بين الرجل والمرأة، واعتبرتها النساء سلاحاً نافعاً في حربهن مع الرجال، لتقول: (منذ هذه اللحظة وأنا في موقف شائك، فآخر شيء كنت أود أن أفعله هو أن أرفض مساندة المرأة). تمت هذه الترجمة للعربية بفضل من إيمان أحمد عزب، وصدرت في 2011 عن كلمات عربية للترجمة والنشر في القاهرة.

الجمعة، 2 يوليو 2021

كارل ماركس

 


اسم الكتاب: كارل ماركس أو فكر العالم

سيرة حياة

المؤلف: جاك أتالي

المترجم: محمد أحمد صبح

الناشر: دار كنعان للدراسات والنشر-دمشق

تاريخ النشر: الطبعة الأولى 2008



عرض: أسامة عباس


* يقول ايزايا برلين إن كارل ماركس خلافاً لشوبنهاور وتوماس كارلايل ونيتشه، الذين انتهى مصيرهم إلى البحث عن مهرب في ماضي انقضى وفي مدينة قصية أو بالوقوع في لجة الهستيريا والجنون، خلافاً لهم ظل هادئاً ومطمئناً يؤدي رسالته في التبشير بمجتمع المستقبل، ويكشف للناس عن علامات الانحلال والإنهيار التي كان يراها حوله في كل جانب. وقد عاش أربعتهم في القرن التاسع عشر الذي شهد اكتمال سيادة الإنسان أو زيادة سيطرة عقله على العالم، بدلاً عن تلك الرؤية المرتكزة على الإلهي والخارق للطبيعة، وبكلمات من البيان الشيوعي 1848 كانت الحياة التي تعطرت يوماً بقيم النبالة والفروسية قد انقضت وتمزقت العلاقات العائلية لتتحول لمجرد علاقات مالية، بيد أن كارل ماركس فعل أكثر من ذلك، إذ أخبر الناس بأن مجتمعاً دون طبقات يتساوى فيه بني الإنسان يمكن أن يوجد في الأرض، وجعل من ذلك حلماً واقعياً وهدفاً سياسياً يلتف حوله الناس، ومازالوا يلتفون حوله وسيلتفون حوله ربما إلى الأبد.


* وفي هذا الكتاب سيرة شيقة لحياة ماركس ولسيرة أفكاره وتطورها، أي لتلك المفاهيم العقلانية التي عكف عليها ليتحقق ذلك المجتمع الذي حَلُم به مصيراً لبني الإنسان، وهو الذي كتب مبكراً في (تأملات شاب حول اختيار طريقه) عن الواجب وخير البشرية، وفي رسالة من والده وهو في سنته الجامعية الثانية، وقد كانت الحوارات بينهم متصلة منذ كان طفلاً، جاء فيها: (إذا شاءت إرادة الله، فلا تزال أمامك حياة طويلة تعيشها لخيرك ولخير عائلتك -وإذا كان حدسي صحيحاً- لخير البشرية) وكان والده يريده أن يتابع دراسته في القانون، لكنه اتجه إلى الفلسفة ليصبح أستاذاً في الجامعة، ولما تعذر ذلك عمل بالصحافة، ليكتشف عند تحضيره لمقالة متعلقة بالمِلكِية أن معارفه في الاقتصاد السياسي ضعيفة، فينهمك في قراءة الاشتراكيين الفرنسيين، كسان سيمون الذي طالما حدثه والده عنه، والذي كان يتحدث عن المساواة وأولية الاقتصادي على السياسي وعن المجتمع المنقسم إلى طبقتين.


* وبرحيله إلى باريس وبروكسل، بعد أن تعذر عمله الصحافي في ألمانيا بسبب الرقابة، ثم إلى لندن التي قضى فيها بقية حياته، يبدأ ماركس في شَغل المكان الشاغر للفيلسوف الملتزم كما يقول المؤلف، بتقديمه للوعي الطبقي على الوعي السياسي، لأن مصالح الفئات أو الطبقات الإجتماعية متعارضة، ثم يطور مفهوميه حول الاغتراب وفائض القيمة، برده الاغتراب إلى العمل الذي لايعود عائده إلى مُنتِّجه، متحدثاً عن المفهوم الاقتصادي للاستغلال في ارتباطه بالمفهوم الفلسفي للاغتراب، والذي سيؤدي اختفاءهما، الاغتراب أو الاستغلال، لأنْ يصبح العمل متعة، وقد تحرر بواسطة شراكة حرة للمنتجين من قبضة رأس المال أو الرأسماليين، الذين يراكمون ثرواتهم مما ينتجه العمال، وهو ماسماه ماركس بـ(فائض القيمة) أي أن يستحوذ الرأسماليون على قيمة ماينتجه العمال مقابل أجرة أقل من قيمة ماينتجونه، ويصبح الغرض من تقديم الرأسمالي لتلك الأجرة، هو أن يبقى العامل حياً ليواصل في الإنتاج، دون أن يحصل على نصيبه من هذا الإنتاج، لأن الأجرة ليست القسمة والنصيب.


* وبخلاف النظرة السائدة لماركس كفيلسوف اجتماعي وعالم اقتصاد سياسي، يُبرِز الكتاب سيرة ماركس السياسي والصحافي الذي يتابع الأحداث وينشر تحليلاته وتعليقاته عليها، وقد عمل وساهم في تأسيس أكثر من صحيفة، وقام مع رفيقه فريدريك إنجلز بتأسيس (لجنة المراسلات الشيوعية) في بروكسل، للانخراط في العمل السياسي بدلاً عن الاكتفاء بالتأليف أو التنظير، ولأخذ مكانهما في قلب المنظمات الثورية الأوروبية العاملة يومها، وبالفعل انضمت لجنتهم لعُصبة المُنصِفين في لندن، التي تحول اسمها باقتراح من ماركس إلى (عُصبة الشيوعيين) وأصبح شعارها (ياعمال العالم اتحدوا) بدلاً عن (كل بني الإنسان أخوة) لتضم مناضلين من كأفة دول أوروبا، ويصبح الهدف: قلب البورجوازية وازالة نظام الطبقات، وقد نشرت العُصبة في 1848 بيانها الشهير الذي كتبه ماركس والذي سيصبح النص غير الديني الأكثر انتشاراً حتى أيامنا هذه، كما يقول المؤلف، وهو البيان الشيوعي.


* ويختم الكتاب السيرة بتتبعه لمعارك ماركس الأخيرة، كصراعه ومساهمته في تأسيس الجمعية الدولية في 1864 التي قامت وسط تيارات متنافسة، يريد بعضها الإكتفاء ببرنامج ينادي بالتعاونيات، وبين فوضويين يريدون إزالة الدولة وقلب النظام رأساً على عقب، وهو مايريده ماركس وأنصاره، لكن عن طريق حزب سياسي تُشكِله البروليتاريا ومنخرط في الديمقراطية البرلمانية، كما يقدم الكتاب قراءته لمآل ماركس، خاصة بعد أن تحولت مفاهيمه وأفكاره إلى إسطورة وإيديولوجيا سلطة، ارتكبت الكثير من الفظاعات في عدد من البلدان، وقد تم ذلك بسبب إلتباسات، كما يقول المؤلف، متناثرة في كتابات ماركس تسمح بالعديد من التفسيرات حول المستقبل الذي بشر به، أي المجتمع الشيوعي، وبالرغم ذلك يقول المؤلف: تستعيد اليوم نظرية ماركس كل معناها في إطار العولمة التي تنبأ بها، ونحن نشهد انقلاب المجتمعات التقليدية والإفقار العام وتركز رأس المال، الذي في طريقه لاستنفاد تسليع العلاقات الاجتماعية، وحينها لن يبقى أمام البشرية سوى التدمير أو الاشتراكية.


الخميس، 10 يونيو 2021

منهج الكتاب والحكمة

 


اسم الكتاب: منهج الكتاب والحكمة

مدخل إلى الإصلاح الديني

المؤلف: شمس الدين ضو البيت

الناشر: مشروع الفكر الديمقراطي، سلسلة قراءة من أجل التغيير رقم (1)

تاريخ النشر: الطبعة الثالثة يونيو 2017




عرض: هشام مكي حنفي


* فكرة الكتاب الجوهرية قائمة على ضرورة العمل على الإصلاح الديني واقتراح ما سماه المؤلف، (منهج الكتاب والحكمة)، ويربط الكاتب ربطاً منطقياً بين حالة التخلف والجهل التي تسود العالم الإسلامي ونمط التدين السلفي الذي شاع فيه، مُرجعاً جذور الانغلاق والتحجر الفكري إلى العقود الإسلامية التي تلت فترة الخلافة وبدأت مع التحول السياسي الذي أوجد دولة الأمويين التي عملت على إغلاق باب الاجتهاد والتفكير مما أدى لسيادة العقل النصوصي الناقل وتحجر الفكر المبدع. 

* بناءً على هذه المقدمة النظرية، يُرجع المؤلف الاخفاقات التي تمر بها الدول الاسلامية والعربية -والسودان من بينها- إلى كونها أعراض للأزمة التي يمر بها النظام المعرفي السلفي الذي ما عاد بإمكانه مواكبة العصر ولا تقديم حلول للمشاكل المستجدة. وبحسب المؤلف فإن هذا النظام المعرفي باستناده لنصوص وتأويلات عمرها 14 قرن لا بد أن يعجز أمام مستجدات ومشاكل العصر الحديثة التي لا يجد لها توصيف في نصوصه الموروثة، مثلما فشل الداعون للعودة لهذا النظام في تكييف نصوصه وقواعده لتتماشى مع المشاكل المعاصرة.

* يقسم ضو البيت النظام المعرفي الإسلامي إلى اتجاهين معرفيين، الأول منهما يتمثل في الدعوة الإسلامية في بداياتها وما مثلته من انتقال تطوري من مجتمع القبيلة إلى العقيدة و من التفكك إلى الوحدة و من وأد البنات إلى دورٍ أفضل نسبياً للنساء، أما الثاني الذي نشأ بعد الفتنة الكبرى واقتتال الصحابة وما تلى ذلك من نشؤ الملك العضوض و تكريس مبدأ الجبر و لزوم طاعة الإمام و انتفاء الشورى وتراجع الحريات ومطاردة المفكرين و المجتهدين و بروز الفكر الذي يرفض التجديد والاجتهاد، وهذا ما ساد فيما بعد و مثل النظام المعرفي السائد اليوم والذي أنتج التراجع المعرفي والقعود عن المساهمة في العلم و التقدم و ما نتج عن ذلك من أزمات.

* وكما سبق فإن جوهر الكتاب وفكرته المركزية هي ما أسماه المؤلف (منهج الكتاب و الحكمة) ويمكن تلخيص هذا المنهج حسبما طرحه الكاتب في أن الإسلام يقوم على المبدأين (الكتاب و الحكمة) أما الأول منهما أي الكتاب وفق تعريفه فهو الأحكام و التشريعات أو الشريعة، ويقول المؤلف، أن الطبيعي في هذا الشق أنه متجدد بتغير الأزمان، لذلك فإن عدم تطور التشريعات الاسلامية هو ما أقعد الدول و المجتمعات المسلمة عن التطور ومواكبة احتياجات العصر، أما الحكمة وفق توصيفه فهي جوهر الدين و روحه التي شُرع لأجلها وهي ما ينبغي اتباعه، ويقول أنه بتفهم الحكمة من التشريعات يمكننا تطويرها لخير وصالح الناس، وبذا تتطور المجتمعات المسلمة وتلحق بركب العالم المتطور.

* وفي نهاية الأمر يخلص الاستاذ شمس الدين ضو البيت إلى ان القاعدة القائلة بصلاحية التشريع الاسلامي لكل زمان ومكان هي قاعدة غير صحيحة يجب تجاوزها كما نادى بذلك الراحل الاستاذ محمود محمد طه وأن الدين لا يتعارض مع التطور العلمي والتكنولوجي ويمكن تجديد مفاهيمه وتشريعاته بما يتماشى مع ذلك.


الجمعة، 4 يونيو 2021

قبائل شمال ووسط كردفان


المؤلف: هارولد ماكمايكل

ترجمة: سيف الدين عبد الحميد

الناشر: مركز عبد الكريم ميرغني، الطبعة الثانية يونيو 2017



عرض: هشام مكي حنفي

* مؤلف هذا الكتاب مؤرخ وإداري بريطاني، حائز على درجة أكاديمية عليا في التاريخ من جامعة كمبردج، أُنتدب للعمل في خدمة حكومة السودان الاستعمارية في العام 1905 حيث عمل في كردفان ومختلف مديريات السودان الأخرى، وصولاً إلى منصب السكرتير الإداري لحكومة السودان حتى تقاعده في 1934. ألّف ماكمايكل العديد من الكتب عن السودان منها (وسوم الجمال عند قبائل كردفان الكبرى) و(تاريخ العرب في السودان) و (السودان الانقليزي المصري) وكتاب (السودان) كما أسس مجلة (السودان في رسائل ومدونات). 

* ينم هذا الكتاب (قبائل شمال ووسط كردفان) عن معرفة حقيقية وعميقة للكاتب بالموضوع، كما أنه يكاد يكون الوحيد في موضوعه، فيما أعلم، ويضم معلومات تاريخية وأنثروبولوجية وجغرافية وإدارية قيمة، وما زالت في غاية الأهمية حتى يومنا هذا. كذلك مما يلفت الانتباه الترجمة الممتازة واللغة الرفيعة للمترجم الأستاذ سيف الدين عبد الحميد الذي أنجز عملاً محكماً. 

* نُشر الكتاب الأصل، في العام ١٩١٢، أي بعد سنوات قليلة من إعادة استعمار السودان، ويبدو وكأنه قد بدأ كعمل قُصد منه تقديم تعريف ومسح جغرافي، ديمقرافي وتاريخي لكردفان، ليعين الدولة الاستعمارية على تحديد أهدافها وأولوياتها الاستثمارية في الإقليم، لكنه انتهى في الواقع إلى كتاب عظيم الفائدة في التاريخ الاجتماعي والحضاري لشمال كردفان.

* يستعرض الكتاب جغرافيا إقليم شمال كردفان وثرواته ويصف كردفان، بأنها الاقليم الأغنى في السودان، ويشير إلى إن الصرف الإداري و التنموي على كل أقاليم السودان، في ذاك الوقت، يعتمد على عائدات هذا الإقليم. تناول الكتاب القبائل التي تعيش في هذه الجغرافيا مستعرضاً أصولها الإثنية وتاريخ تواجدها في المكان وحدودها القلبية وعلاقاتها مع القبائل الأخرى وفي خلال ذلك تطرق للممالك التي نشأت في كردفان، وصراعاتها، وأسباب نشوؤها، وفنائها.

* من ضمن المساهمات المهمة التي يقدمها الكتاب تناوله للعديد من القبائل التي تكاد تنسى مثل قبيلة الداجو وأصلها والمملكة العظيمة التي أنشأتها في دارفور ثم كيف انتهت القبيلة وتفرقت بين كردفان ودارفور. كذلك قبيلة التنجر والروايات حول أصلها وما أقامته من ملك في كردفان ثم اضمحلال دورهم وتفرقهم كذلك، وغير هذا من التاريخ المهم لكثير من الشعوب الأصلية في السودان والذي لا يجد الاهتمام بتدوينه حتى هذه اللحظة مما أدى لضياع معظمه.

* على الرغم من الطريقة الموضوعية والمنهج المحكم الذي اتبعه ماكمايكل في تأليف الكتاب إلا أنه لا يخفي احتقاره للدم أو العنصر الأسود، ويرد هذا كثيراً في معظم فصول الكتاب، فعلى سبيل المثال في ص 277 عند وصفه لقبيلة الهوارة يقول عنهم أنهم (صاروا قذرون وذوو أخلاق سيئة بسبب المزيج الجم من الدم الأسود واختلاطهم بعناصر الجنوب الوضيعة). لكن يظل الكتاب مهم وغني بمعلومات كثيرة عن آثار لحضارات قديمة في كردفان وقف عليها المؤلف وعن صراعات ممالك الفور والفنج والمسبعات وممالك أخرى أقل سادت وقتاً ما في هذا الجزء من السودان وبه معلومات لم ترد في مراجع أخرى عن العنج والتنجر وأقوام قديمة من السودان.


الأربعاء، 26 مايو 2021

فاتنة المهدي

 

فاتنة المهدي أو استعادة السودان

تأليف: دوقلاس لندن

ترجمة: وهبة فهمي

الناشر: المطبعة العصرية بمصر



عرض: هشام مكي حنفي

* فاتنة المهدي رواية مكتوبة بقلم أحد الاستعماريين البريطانيين هو (دوقلاس لندن) وتحمل عنواناً جانبياً (استعادة السودان)، وهي رواية تاريخية تعيد كتابة أحداث ما دار في السودان خلال فترة حكم الدولة المهدية ثم الحرب ضد هذه الدولة والتي انتهت بإعادة استعمار السودان. 

* تدور أحداث الرواية بشكل رئيسي في السودان في السنوات القليلة التي سبقت الثورة المهدية والسنوات التي أعقبت ذلك، حتى عام إعادة الاستعمار على يد القوات الانقليزية. يبدأ التمهيد للرواية بأحداث تدور في مصر حول فتاة إيطالية وضابط إنقليزي يُفتتن بها، ثم تنتقل الفتاة مع أسرتها إلى السودان حيث سيعمل والدها في قصر الحاكم العام، وتتوالى الأحداث إلى قيام الثورة المهدية وسقوط الخرطوم في يد المهدويين، ليسجن والدها في سجن الساير وتقع هي ووالدتها في أسر الدراويش فتكون هي من نصيب المهدي نفسه، وهنا تدور الرواية داخل الرواية ويستخدم المؤلف بعض الحكايات الشفاهية التي كانت تدور وقتها بالإضافة للأحداث الكبيرة الموثقة ليقوم بكتابة التاريخ برؤية إبداعية، أو ضمن عمل فني يعفيه من الالتزام بالمرويات الرسمية ويتيح له خلق تاريخ تلك اللحظة كما يريد، مع تضمين العديد من الرسائل.

* هناك من ربط بين رواية "شوق الدرويش" للروائي السوداني المعروف حمور زيادة وهذه الرواية، لكن في الواقع لا رابط بين العملين سوى التاريخ الزمني و المكان الذي تدور فيه معظم الأحداث، عدا ذلك فأبطال حمور زيادة سودانيين وتهتم روايته بإبراز جانب من الصراع الذي احتدم داخل المجتمع السوداني خلال فترة دولة المهدية، بينما أبطال هذه الرواية أوربيين وهي تركز على الفارق الحضاري بين الشعوب وتجتهد في تبيان همجية الشعب الذي ثار ضد الاستعمار مقابل إنسانية الأوربيين الذين أعادوا الأمن والنظام، أما الرسالة المركزية للرواية في ظني، فهي تبرير وشرعنة الاستعمار من خلال قالب درامي يصور الأوربيين بشراً فاضلين يقعون في قبضة المتمردين الهمجيين حتى يأتيهم الخلاص مرةً أخرى على أيدي الفاتحين الأخيار. لكن برغم ذلك، تظل هذه الرواية جيدة كعمل فني بمقاييس الرواية الكلاسيكية وهي تستحق القراءة لذلك ولقيمتها التاريخية كعمل يفكك الأحداث بمنظور مختلف ويتناول بعض الروايات المسكوت عنها فيما يتعلق بالمهدي وبعض جوانب سلوكه الشخصي وقادته الكبار مما كان متداولاً بين الناس وغفلت عنه الروايات الرسمية للتاريخ.


السبت، 3 أبريل 2021

أفق الأرجوان

 



المؤلف: تاج السر الملك

الناشر: Taj multimedia © Virginia-USA




عرض: د. هشام مكي حنفي


* أفق الأرجوان رواية لتاج السر الملك تقع في 344 صفحة، ووصف رواية قد لا يحيط بها كما ينبغي، فتاج السر (سوى فيها البدع)، و قد تنتهي من قراءتها لكنها لا تنتهي، وككل كتابات تاج السر الملك (يدخلك بحمد) و لا يدع لك سبيل للخروج. الرواية عبارة عن نقد اجتماعي سياسي ساخر لكثير من أحوال المجتمع السوداني كالاستسهال و العفوية المفرطة والقدرية الساذجة. تكنيك الكتابة في هذه الرواية كما في معظم كتابات تاج السر يشبه مذهب العبث أو العبثية الذي نشأ أواخر القرن التاسع عشر و لقى رواجاً واسعاً خلال القرن العشرين في الرواية و المسرح و الشعر، كما أنه يشبه تيار الواقعية السحرية لكن بطريقة مميزة، وفي كل الأحوال فالرواية ممتعة ومشوقة بحيث لا تتمكن من توقع ما يحدث في الفقرة التالية. الكاتب أو الراوي في أفق الأرجوان لا يطلق الأحكام القيمية، بل يترك هذه المهمة للقارئ الذي يتوصل من تتالي الأحداث إلى ما فيها من تناقض أو قيم إيجابية يمارسها الناس عفو الخاطر في هذا المجتمع الفريد. و برغم وصفي للرواية بالساخرة إلا أن الكاتب/الراوي لا يسخر من شيء مباشرةً، بل هي الأحداث، التي تنتزع منك ابتسامة أحياناً و قهقهة في أحيان كثيرة و تأمل في معظم الأحيان. من أميز ملامح الرواية تداخل الأزمان بطريقة قد تزعج القارئ أول الأمر لكنه يكتشف لاحقاً أنه تداخل مقصود فهو أحياناً يكشف تشابه و تكرار الأمور في حياتنا بطريقة غريبة وعبثية بحيث أن حدث ما وقع في الفترة المايوية قد يدمجه الراوي في الزمن الإنقاذي بدون عناء لتكتشف فجأة كيف أن حياتنا تدور في نقطة ما لعقود من الزمن و هي مفارقة ساخرة و محزنة في نفس الوقت. 


* يعلم قراء تاج السر أن (عزِّو) بطل الرواية هو شاب سوداني فيه ملمح من مبتدعه تاج السر وفيه ملامح من كل السودانيين في الشتات وفي السودان وهو سوداني عادي قد يكون القارئ وقد يكون أشخاص كثر يعرفهم في مدن وأوقات سودانية عديدة. أفق الأرجوان هي زمن سوداني ممتد، وهي أشبه بالتأريخ الاجتماعي الذي يتناول هجرة السودانيين الكبرى و خيباتهم الأكبر خلال زمن (الإنقاذ)، يتناول الغناء السوداني وذائقة السودانيين و طريقتهم في تفضيل الغناء والمغنين، كما يتناول الموت والنزاعات الصغيرة والكبيرة كيف تنشأ و كيف تنتهي، و الحب و الحياة والبيوت و كيف يكون التواصل بينها، والأعمام والأخوال وكل الأقارب الآخرين وكيف يكون وجودهم في حياتنا الخاصة والعامة. و كما قلت تنتهي الرواية لكنها لا تنتهي، و تحس بالامتنان مع شبهة عتاب لانتهائها، أفق الأرجوان رواية جديرة بالقراءة ككل كتابات تاج السر الملك. 


الثلاثاء، 30 مارس 2021

المقاومة الداخلية لحركة المهدية

اسم الكتاب: المقاومة الداخلية لحركة المهدية

(1881-1898)

المؤلف: د. محمد محجوب مالك

الناشر: دار الجيل-بيروت

تاريخ النشر: 1987






عرض د. هشام مكي حنفي


* بدأت فكرة هذا الكتاب عند المؤلف، كما يقول، عندما كان يعمل في ترتيب دفاتر مراسلات المهدية خلال فترة عمل بها في دار الوثائق المركزية في الخرطوم، وباطلاعه على مراسلات المهدية بدأ يطلع على بعض حقائق تلك الفترة من داخلها ومن خلال ما كتبه صناع أحداثها بأيديهم، بلغت هذه المراسلات 6224 وثيقة صادرة عن المهدي والخليفة، وقد وفرت له فرصة الوقوف على الأحداث ومسبباتها من الداخل بعكس ما كان في مؤلفات الأجانب الذين كتبوا عن المهدية من أوروبيين وغيرهم، إذ فسروا كثير من الأحداث من وجهات نظرهم التي كانت في كثير من الأحيان بعيدة عن الحقيقة، وهذا ما شكل عنده أحد دوافع كتابة هذا البحث، وبالإضافة لمراسلات المهدية السابق ذكرها، اطلع المؤلف كذلك، على وثائق السودان بأرشيف مجلس الوزراء المصري، وما فيها من مكاتبات ذات صلة مباشرة بهذا الموضوع أو كتبت في نفس الفترة ولها صلة بعموم الأحداث بالإضافة لمؤلفات من كتبوا عن المهدية كما أسلفنا.


* يتناول الكتاب حسب ما يتضح من العنوان حركات المقاومة الداخلية التي واجهت الدولة المهدية والطريقة التي تعاملت بها قيادة الحركة والدولة ممثلة في المهدي و الخليفة مع هذه الحركات، كما يستعرض بعض الردود العنيفة تجاه من ظن فيهم المهدي أو خليفته احتمال المناوأة أو من كان هناك خوف من احتمال تنامي قوتهم بما قد يجعلهم مراكز قوة في أي وقت من الأوقات، كما يتطرق للنزاعات و الصراعات مع الحركة المهدية التي نشأت خلال حياة المهدي أو بعدها، و ما بدر من مقاومة أو مجرد وجهات نظر مختلفة لبعض الأفراد أو الجماعات و الطريقة التي وُوجهت بها هذه المقاومة و الآراء و ما اتسمت به من عنف مفرط.


* يبين الكاتب كذلك كيف أن التناقضات التي برزت بين ما يقوله المهدي و ما يحدث في الواقع أدت لحدوث بعض التساؤلات والتشكك مما اعتبره المهدي و الخليفة معارضة، ومن ذلك ما حدث في بدايات الصراع مع الحكومة في معارك كردفان، حين كان المهدي قد منع استخدام الأسلحة النارية بدعوى أنها سلاح الكفار وقصر على أنصاره القتال بالسيوف، لكن عندما سقط 10000 من رجاله في يوم واحد، في معركة الجمعة التي حاول فيها اقتحام الأبيض عاد وسمح باستخدام السلاح الناري فتشكك البعض في مهديته، و لما بلغه هذا أشار إليهم في أحد منشوراته واعتبر هجرتهم مردودة وطالبهم بالتوبة و تصحيح إيمانهم وقد كانت هذه من بواكير المنازعات على الأساس النظري للفكرة و التي قُمعت لاحقاً بقسوة و شدة أكبر.


تناول الكتاب سيرة الشيخ المنا اسماعيل شيخ قبائل الجمع الذي ناصر المهدي منذ وقت مبكر للدعوة وما كان له من فضل في انتصارات المهدية الحاسمة في التيارة و بارا و الأبيض، حيث قاد جيش ضخم أكبر من الجيش الذي كان مع المهدي، تكون من قبائل الجمع و حلف من عديد من قبائل شرق كردفان والنيل الأبيض، وهو ما أثار هواجس الخليفة و جعله يتخوف من أن ينشأ لدى شيخ المنّا طموح في القيادة أو تولى مكانة متقدمة كنائب للمهدي فاستفزه وناوشه ولما لم يجد استجابة خاف مما قد يبطنه فاغتاله في خلوته بعد رجوعه للتيارة مع كل رجال أسرته.


يطرح المؤلف عدد من التساؤلات المفتاحية التي تستبطن الإجابة على معظم التعقيدات والتناقضات التي أدت لنشؤ المقاومة، بل والتي أدت في نهاية الأمر لسقوط الدولة نفسها، يتساءل د. محمد محجوب عن لماذا نجحت الثورة في السودان دون بقية البلدان الخاضعة للسلطة العثمانية؟ و عن سبب هجرة المهدي إلى جبل قدير وكردفان وسر  النجاح السريع و الكبير الذي حققه هناك؟ و من ضمن أسئلة الكتاب المهمة التي أجاب عليها المؤلف خلال بحثه تساؤله عن "هل كان نجاح الثورة المهدية راجعاً إلى استراتيجية المكان ومرتكزات الحركة الأساسية المتمثلة في القيادة الشخصية للمهدي .... أم إلى القبائل البدوية التي حاربت للتخلص من دفع الضرائب و الاستمتاع بالغزوات الحربية وامتلاك الغنائم؟ أم كان راجعاً للجلابة... الذين تضرروا من منع تجارة الرقيق". أجاب المؤلف على كل هذه التساؤلات وغيرها باستفاضة في عمل تاريخي محكم وممتع يستند على تحليل الوثائق و شواهد الحال وروايات بعض كبار السن الذين زارهم مستقصياً و باحثاً عن مزيد من المعلومات و لمقارنة صحة ما تجمع لديه من مصادر أخرى.


الكتاب مهم و جدير بالقراءة و مما يزيده أهمية مساهمته غير المسبوقة في تناول تناقضات المهدية على مستوى الدعوة والحركة والدولة تلك التناقضات التي حملتها معها وغذَتها لتنفجر آخر الأمر و تتسبب في انهيارها، كما تتمثل أهمية الكتاب في أن المؤلف اهتم بتدوين جانب مهم من تاريخ المهدية أُهمل عمداً أو لسوء تقدير و في كلا الحالتين هو إهمال ضار بالتاريخ الذي لا ينبغي أن يكتب بطريقة انتقائية. و من الإضافات المهمة تصحيحه لبعض التاريخ الرسمي فالكتاب يخبرنا بالوثائق عن كثير جداً من القبائل السودانية التي ظلت في نزاع و قتال مع المهدية حتى آخر لحظة خلافاً للاعتقاد السائد بأن كل أو أغلب قبائل السودان قد أيدت المهدية وبقيت على هذا التأييد حتى النهاية. معظم من كتبوا عن المهدية انطلقوا إما من إعجاب مفرط جعلهم يجملون الوقائع ويتغاضون عن كثير من مثالبها أو من بغض قادهم لشيطنتها و عدم رؤية أي جانب إيجابي فيها، و هنا بالضبط تقع مأثرة د. محمد محجوب مالك و كتابه هذا الذي لم يجد ما يستحقه من التناول.

 


الثلاثاء، 16 مارس 2021

النسيان



الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب

تاريخ النشر: 2015


 * يقول المؤلف، في الصفحات الأولى لهذا الكتاب، إنه بعد سنوات من قراءته لرسالة فرانز كافكا تلك، اللائمة والشارحة (رسالة إلى الوالد) فَكَّر أن يكتب رسالة معكوسة متضمنة مواقف نقيضة لسان حاله فيها (بابا، لا تحبني إلى هذا الحد) ومع ذلك يمكن النظر لهذا الكتاب، وهو سيرة واقعية لحياة المؤلف مع والده ووالدته وشقيقاته الخمسة، بمثابة تلك الرسالة المعكوسة، وقد فاضت بالكثير من الامتنان لذلك الوالد الرجل النادر المثال، يحكي المؤلف عن تدليل أباه الفائق له، وكيف كان هذا التدليل وتحيته له بالأحضان كلما عاد من المدرسة إلى المنزل، مثار سخرية زملاءه ومصدر ألم له، إلى أن أخبره يوماً أحد أصدقاءه بغيرته لأن أباه لم يقبله قط، وقد استمر هذا التدليل والدعم حتى بعد أن تزوج الإبن وأنجب طفلة، وقد أرسل له مرة رسالة يخبره فيها باكتئابه ورغبته بتغيير دراسته الجامعية مرة أخرى والعودة إلى المنزل، فكان ضمن ما قاله الأب في رده الداعم؛ ليس عليك أن تقلق يمكنك العودة ويمكنك الذهاب ولاتنس أن العودة هي الأهم، ومع ذلك كان هذا الأب متشدداً في كل مع يتعلق بالنظافة الشخصية وضرب اخته الصغرى وكان يكره أن يفتقد أبناءه للوعي الاجتماعي أو الجهل بواقع البلد الذي يعيشون فيه، ففي مرة مرض وهو الطبيب وأستاذ الصحة العامة ولم يستطع الذهاب إلى الجامعة، وكان ذلك مصدر أسفه لأن طلاباً كثيرين سيدفعون أجرة الموصلات وسيذهبون للجامعة، فقال له ابنه لماذا لا تتصل عليهم عبر الهاتف؟ فصرخ في وجهه غاضباً: أين تخال نفسك؟ هناك أحياء في هذه المدينة ليس بها مياه نظيفة، من أين لهم بالهاتف؟ وقد كان هذا الأب منخرطاً بالفعل في حملات مجتمعية متواصلة لمد شبكة مياة نظيفة في كل أرجاء مدينته، وكان رئيساً لأكثر من مرة لرابطة أساتذة الجامعة للدفاع عن الحريات، وكان مواظباً على كتابة المقالات الصحفية الجريئة المنددة بالفقر والظلم وجرائم الاختفاء القسري والإغتيالات السياسية، وقد إزداد غضبه ونشاطه السياسي مع ارتفاع وتيرة العنف والاغتيال في ثمانينات القرن الماضي في كولومبيا، حتى أصبح مصدر إزعاج واحراج للسلطات الحاكمة والحركات المسلحة المعارضة ولزملاءه في الجامعة، ليقول المؤلف أن الأسر  في تلك الفترة كانت تحرص ألا يشترك أبناءها في النشاط السياسى، إلا نحن كنا نريد أن يخفف أبانا من نشاطه السياسي، وفي مرة تم اعتقاله في مظاهرة ولم يستطع الافلات كما فعل كثيرين، فسئل لماذا لم تهرب، قال؛ إنه خلط بين سيارة مكافحة الشغب وسيارة جمع القمامة، وقد وصل خبر التهديد بقتله إلى علمه وعلم الجميع، لكن هذا العجوز الراديكالي لم يأبه أو يوقف نشاطه، وقالت له ابنته؛ بابا ان الناس هنا لا يحبونك، فرد عليها قائلا؛ يحبني الكثيرون ياحبيبتي، ولكن ليس في الأماكن التي تترددين عليها، إنهم في جانب آخر، وسأصحبك يوماً لتتعرفي عليهم، لتقول هذه الإبنة إنها تعرفت عليهم بالفعل يوم تشييع جنازته التي طاف بها الالاف يهدرون بالهتاف في شوارع مدينة ميديّين الكولومبية. إكتور آباد فاسيولينسي كاتب كولومبي، يقول إن كتابه هذا هو انتقامه الوحيد لقتل أبيه، الذي علمه أن يضع الحقيقة في كلمات لأنها ستعيش عمراً أطول من أكاذيب القتلة . 



الجمعة، 12 مارس 2021

مذكرات يوسف ميخائيل

اسم الكتاب: مذكرات يوسف ميخائيل التركية و المهدية و الحكم الثنائي في السودان
المؤلف: يوسف ميخائيل
تحقيق د. أحمد إبراهيم أبو شوك 
الناشر مركز عبد الكريم ميرغني- أم درمان 
الطبعة الثالثة: 2016 




 عرض: د. هشام مكي حنفي

 * "مذكرات يوسف ميخائيل، التركية و المهدية والحكم الثنائي في السودان" كتاب استثنائي و فريد يوثق لحقبة معقدة من تاريخ السودان في ظل ثلاثة أنظمة حكم مختلفة، وتأتي فرادة الكتاب من توثيقه للحياة اليومية للناس ولعمل دواوين السلطة ولطبيعة و تركيب المجتمع السوداني في ذاك الوقت من شخص عاش كل هذه الأحوال كمواطن عادي ثم ككاتب في دواوين الحكومة التركية، ثم كاتب لدى بعض شيوخ و أمراء المهدية وصولاً إلى كاتب خاص و مميز لدى الخليفة عبد الله التعايشي رأس الدولة المهدية، كما عمل فيما بعد، خلال الحكم الثنائي ككاتب تجاري لدى الشركات الاستعمارية شبه الرسمية مما أتاح له الاقتراب من بعض رموز الحكم. كذلك فإن الكتاب يختلف عن الكتب التي كُتبت عن تلك الفترة بواسطة رجال دولة و مسؤولين استعماريين لاختلاف طبيعة كاتبها، و بالتالي اختلاف موقعه و نظرته للإحداث التي كان مشاركاً في كثيرٍ منها من داخلها كمتفاعل و ليس كمراقب، تم تدوين الكتاب في مرحلة لاحقة كتسجيل للأحداث و الذكريات التي عاشها المؤلف و هو بذلك لم يكن مذكرات دُونت في وقتها ثم جمعت لاحقاً لذا يتحفظ المحقق عند وصفه بمذكرات لكنه يقبله بتحفظ. 

 * الكتاب في الأصل مخطوط باليد من قبل مؤلفه يوسف ميخائيل و مكتوب باللغة العربية العامية لشمال كردفان أو دارجة كردفان كما يصفها المحقق د. أبو شوك الذي يصف بدقة في مقدمته للكتاب حال المخطوط و المنهج الذي اتبعه في تحقيقه، و النسخ التي اعتمد عليها و ما أجراه من إضافة و تعديل و ضبط للنص بالإضافة للهوامش التي شرح فيها كثير من الأمور التي قد تغيب عن القارئ من أسماء أعلام و مواقع جغرافية و معارك و أحداث. 

 * وُلد كاتب المذكرات في مدينة الأبيض خلال الاستعمار التركي و ينتمي لأسرة قبطية مهاجرة من مصر إذ كان كاتب لدى الحكومة في السودان، و قد كان ميلاده خلال العالم 1865 كما يرجح المحقق بما يعني أن عمره كان في حدود 18 عام عندما حرر الأنصار الأبيض، يتناول الكتاب في فصله الأول حال الحياة في كردفان قبل المهدية و يستعرض الواقع السياسي و الاجتماعي و الاقتصادي لذلك المجتمع، و يتناول الزيارات الباكرة التي قام بها المهدي للأبيض كرجل دين صوفي يتجول في البلاد و العلاقات التي أقامها و وثَقها مع رجال الدين في المدينة كالسيدين المكي و سوار الدهب و هو ما يعتبره المؤلف البدايات الأولى المُمَهدة للمهدية و هو في ذلك يتفق مع معظم المراجع التي وثقت لذلك. الفصل الثاني يتناول الانطلاق الفعلي للحركة المهدية و انتصاراتها العسكرية و انتشار الفكرة بين السودانيين و في هذا يشير الكاتب للمظالم و العسف الذي كان يتعرض له أهل البلاد مما جعل فكرة المهدي المنتظر تنتشر و تجد لها قبول وسط المواطنين قبل ظهور حركة المهدي و هو ما سهل إيمان الناس بالمهدي لاحقاً و سرّع انخراطهم في صفوف جيوشه. في هذا الفصل يتناول الكاتب طبقات المجتمع و طوائفه و يركز على فئة التجار الجلابة و علاقاتهم بالسطلة و صراعاتهم في ذلك.

 * يتناول الفصل الثالث فترة حكم الخليفة عبد الله و طريقة قيادته و أخيه يعقوب للدولة و الصراعات الداخلية العنيفة التي اتسمت بها تلك الفترة، و تفاصيل تصفية الخليفة و يعقوب لقيادات الجيش و رؤوس القبائل لا سيما قبائل البحر، و المؤامرات و الدسائس و مجمل عملية إدارة الدولة سياسياً و اقتصادياً و اجتماعياً. و يبين الكاتب كيف أدت جملة التناقضات التي اكتنفت تلك الفترة و سوء إدارة الخليفة إلى الهزيمة المحققة في كرري التي أنهت دولة المهدية. 

 * في الفصل الرابع يصف الكاتب حالة الفوضى و الاضطراب في أم درمان بعد هزيمة كرري و الأيام الثلاثة الصعبة التي استباح فيها كتشنر و جنوده المدينة ثم ما تلى من بسط السلطة الجديدة و قيام حكومة الحكم الثنائي و في هذا الفصل يستعرض الحركة التجارية المحمومة لنقل منتجات البلاد إلى الخارج بواسطة التجار الأوربيين و الأتراك و الأرمن و السوريين و المصريين و غيرهم من جنسيات و في هذا يصف نشاط ما أسماها "شركة استعمار السودان" المحمية بالسلطة و التي كانت تعمل بنهم في نقل تلك المنتجات. في رواية يوسف ميخائيل عن الأيام الأخيرة لدولة المهدية يحكي أن يعقوب أخ الخليفة عندما علم باقتراب جيش كتشنر من أم درمان جمع معظم المخزون من الأكل و أفضل الجمال و البغال و أخلى عوائلهم هو و الخليفة و كافة أهلهم التعايشة إلى شبشة على النيل الأبيض و من هنا بدأت (الكسرة) فعلياً قبل المعركة الفاصلة و ليس بعدها و يسجل كيف أن قوات كتشنر ضربت القبة و هدمتها مساء الخميس قبل المعركة الفاصلة الشيء الذي أثر كثيراً في معنويات الأنصار، و يذكر أن علي دينار اجتمع مع قمر الدين عبد الجبار أمين بيت المال و أخذا أفضل السلاح و الذخيرة و (كسروا) من أم درمان مع كافة البرتي. هذه الرواية تختلف عن معظم الروايات السائدة التي تقول أن القبة هُدمت بعد معركة كرري، كذلك في أن كسرة التعايشة و علي دينار و آخرين كانت قبل خوض المعركة في كرري و ليس بعدها. الكتاب يقدم رواية تبدو موضوعية و خالية من التحامل إلى حد كبير كما أنها كُتبت من داخل الأحداث و ليس خارجها إضافة إلى لغتها اللطيفة التي تذكر بلغة طبقات ود ضيف الله و هو جدير بالقراءة لهذا و لعدة أسباب أخر سيكتشفها القارئ عند قراءته.

الاثنين، 8 مارس 2021

جدار بين ظلمتين

 



* بلقيس شرارة ورفعة الجادرجي زوجان عراقيان، ولدت بلقيس في النجف ودرست الأدب الإنجليزي ولها عدد من الكتب، وولد الجادرجي في بغداد وهو معماري وكاتب له عدد من الأعمال الهندسية والفنية ومجموعة من الكتب حول العمارة، وفي هذا الكتاب يقدمان تجربة فريدة لعلها غير موجودة في العالم العربي، إذ يستعيدان تجربتهما كمعتقل وزوجة معتقل، وكان رفعة الجادرجي سُجن بسبب تهمة كيدية، لم تتأكد دوافعها بالنسبة للمؤلفيين حتي بعد انتهاء المحنة ومغادرتهما العراق، كما يأتي في الكتاب، وإن كانا يشيران لتورط وزير الداخلية يومها سعدون شاكر، والكتاب سيرة ذاتية لأحداث أيام الاعتقال التي دامت عشرين شهراً، وجاء في أربعة فصول يتألف كل فصل منها من جزءين، ينتاوب فيه المؤلفيين لينقلان معاناة ظلمتهما داخل وخارج جدران السجن، وفي البدء تحكي بلقيس عن قلقها وخوفها ووحدتها عقب الاعتقال وعن جبروت السلطة وتأثيرها المُخرب في الناس، كما تنقل قرفها من كثيرين كانوا حولهم وإبتعدوا إيثاراً للسلامة، وتُخبر عن احساسها بالخوف من المستقبل الذي تم تدميره، إذ كان الحكم صدر بالسجن المؤبد، ولم تنتهي المحنة إلا لأن صدام حسين اراد تحديث انشاءات في بغداد، بمناسبة مؤتمر لرؤساء دول عدم الانحياز، وكان الجادرجي أحد أفضل معماريين في العراق، ويقول الجادرجي في تقديمه للكتاب إنهما يدونان هذه المذكرات لتساهم في تشكيل مخزون في الفكر السياسي يتمكن من إحداث النقلة المطلوبة للحداثة، حيث يتمتع المواطن بحقوق الإنسان، ويقول عن عنوان الكتاب؛ الظُلمة: ذهاب النور، ودلالة الظُلم هي عدم الإنصاف وانتقاص الحق والجور، ودلالة الظلمتين في ظُلمة السلطة وعتمة الحياة. صدرت هذه الطبعة وهي الثانية في 2008 عن دار الساقي في بيروت.




الثلاثاء، 2 مارس 2021

أسفار إستوائية*

 



* رغم اللغة المقتضبة التي يدون بها هذا الكتاب يومياته، إذ لا يحكي المؤلف الكثير من المعلومات والتفاصيل عن المدن أو الأماكن والمعالم التي توقف عندها، لكن انطباعاته أو مايحكيه ويدونه، كما جاء في التقديم، يكفي لينقل لقارئه وقارئته صورة عن المكان وناسه وعن أحواله، وماتمتاز به تلك المدن والأماكن من خصوصيات، وما يساعد في امتلاك تلك الصورة أو ذلك التصور، هو قوة السرد وسلاسة الحكي، الذي تربط بين ثناياه وتنتثر معلومات قليلة، لكنها أساسية/أولية في معرفة تلك الأماكن، كتاريخ النشأة والنشاط الاقتصادي لتلك المدينة، أو في الاشارة للسمات الدالة في اللباس وأنواع الطعام والطقوس الاجتماعية لأناس ذلك المكان، وغير ذلك من معلومات، وقد افتتح الكتاب يومياته بمدينة المتمة التي أسسها المك نمر في أثيوبيا بعد حرقه لاسماعيل باشا التركي وفراره من المتمة/شندي السودانية، لينتقل بعد ذلك ناقلاً انطباعات/يوميات حول عدد من المدن والمعالم في دول شرق ووسط أفريقيا، كأثيوبيا وكينيا ويوغندا ونيجيريا وأفريقيا الوسطى، التي زارها المؤلف الذي وصف نفسه مرة بأنه رحالة قطاع عام، إذ أتاح له عمله الدبلوماسي ذلك التجوال، لكن براعة عثمان أحمد حسن الأدبية هي التي أتاحت هذا الكتاب الجميل.

--------


الناشر: دار السويدي للنشر والتوزيع-أبوظبي

المؤسسة العربية للدراسات والنشر-بيروت

تاريخ النشر: 2019


* كان كتاب (أسفار إستوائية)  فاز في 2019 بجائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة في فرع الرحلة المعاصرة-سندباد الجديد التي يمنحها المركز العربي للأدب الجغرافي-ارتياد الآفاق، تحت مظلة دارة السويدي الثقافية في أبو ظبي-الأمارات.


الجمعة، 26 فبراير 2021

كتاب جديد لعبدالله بولا

 



* صدر في الخرطوم عن مركز عبد الكريم الثقافي كتاب ( "العناصر الأساسية المُكونة لحضارة ذات أصول زنجية-أفريقية" أم للفكر "الأفريقي" المغترب؟) لمؤلفه عبد الله بولا، وقد ضم الكتاب إضافة لترجمة من اللغة الفرنسية لكلمة كان قدمها الشاعر والسياسي ليوبولد سدار سنغور في مؤتمر للكتاب والفنانين الأفارقة سنة 1959 في روما، ضم دراسة نقدية إحتلت أكثر من نصف الكتاب، قدمها عبدالله بولا حول تلك الكلمة، إذ يرى المؤلف أن أهمية تلك الكلمة أو هذا التقرير أنه يحوى ويجمع أفكار سنغور الأساسية التي نهضت عليها مساهمته النظرية والأدبية في حركة الزنوجية، وذلك مادفعه لاختيارها موضوعاً للترجمة والدراسة، ويذكر أن الكتاب كان نُشر قبلاً سنة 1988 في سبها-ليبيا، وجاء في صفحة الكتاب الأولى أن تلك الطبعة شابها الكثير من الأخطاء التى أضرت بالمعاني في عدة مواضع، الأمر الذي دفع المؤلف لرفض توزيعها، لتكون هذه الطبعة  بمثابة تصحيح لتلك الأخطاء، أو كتاب جديد يصدر للمرة الأولى في السودان، وقد جاء في 157 صفحة من القطع الكبير.


الاثنين، 22 فبراير 2021

عبد الرحمن منيف

 



* عبد الرحمن منيف (1933-2004) روائي معروف، تمتد أصوله إلى السعودية والعراق، وتستند أعماله الروائية على التواريخ العربية الماضية وتستشرف المستقبل، خاصة في روايتيه الملحميتين (مدن الملح) التي جاءت حول قصة اكتشاف البترول وتأثيره في بادية الجزيرة العربية، ورواية (أرض السواد) التي تناولت تاريخ العراق الاجتماعي والسياسي خلال القرن التاسع عشر، وفي هذا الكتاب يحاور ماهر جرار، وهو ناقد واستاذ جامعي في لبنان، عبد الرحمن منيف حول علاقته بالعراق الذي ينتسب إليه بواسطة جدته لأمه، وحول حياته في عمان/الأردن التي ولد وتلقى فيها تعليمه الأولى ثم انتقل لاكماله في بغداد والقاهرة ويوغوسلافيا، حيث تخصص في اقتصاديات النفط، كما تناول الحوار نشاطه السياسي/الحزبي في خمسينات وستينات القرن الماضي، ورؤيته لعلاقة العراق بقضية فلسطين ودور المثقف العربي والرواية العربية، ورغم مرور مايقارب العشرين عاماً اليوم على إجراء هذا الحوار، إلا أن رؤاءه لاتزال زاهرة وتبصراته نافذة، فمثلاً المحاور يسأله عن دور المنظمات والجمعيات الأهلية، كبديل حل مكان الأحزاب، في خلق نوع من الوعي بالقواسم المشتركة بين مكونات المجتمع، إذ تعمل هذه الجمعيات والمنظمات وتربط بين شرائح كانت عبارة عن جزر منفصلة، لكن منيف لايوافق على ذلك ويقول إن التمويل الذاتي هو المهم والأولى بالانتباه إليه، لأن جزءاً كبيراً من الانتكاسة الحزبية يعود للإفساد الذي مارسته الأنظمة تجاه الأحزاب، ومعروف أن معظم تلك الجمعيات تتلقى أموالها من مصادر خارجية كما يشير، ليشير لأهمية ترسيخ دور النقابات ولتحسين مستوى التعليم، وفي إجابة في ذات المحور (المثقف ودوره) يتحدث عن عدم ثقته في المثقف التقني الذي يقدم خدماته بغض النظر عن الإيديولجيا، قائلاً إن المثقف نبتة تنمو في أوساط شعبه، وليس بالضرورة أن يكون أيديولوجياً، لكن يحب أن يحافظ على علاقة مع مشكلات بلاده وقضاياها، والمثقف كما يرى لايمكن أن يكون بديلاً للحزب إنما جزءاً منه، ويقع دوره في التنظير وفي الكشف وفي الربط بين الأحداث والمواقف والقضايا، فالمثقف مهما علا شأنه لايستطيع أن يُغير المجتمع، من يفعل ذلك هم الناس، ومن يستطيع أن ينظم الناس هو التنظيم أو الحزب،  ليقول؛ نحن بحاجة لمثقف لديه ثوابت والتزامات تجاه القضايا الوطنية. كذلك ضم الكتاب بالإضافة للحوار شهادتين حول عبد الرحمن منيف ودراسة أجراها مؤلف هذا الكتاب حول رواية أرض السواد. صدرت هذه الطبعة في 2005 عن المركز الثقافي العربي في بيروت/لبنان والدار البيضاء/المغرب.


الاثنين، 1 فبراير 2021

مذاق البلح


الناشر: دار رفوف للنشر

تاريخ النشر: 2011




* محمد ملص مخرج سينمائي سوري من أفلامه أحلام المدينة/ المنام/ الليل وفيلم مقامات المسرة جاء حول المنشد السوري صبري مدلل الذي اشتهر بالغناء الديني والموشحات والمقامات، وفيلم (سُلَّم إلي دمشق) الذي يدور حول مأساة الصراع السوري، وقد كتبه وأخرجه محمد ملص في 2013 وفي هذا الكتاب يكتب بورتريهات وأحلام وانطباعات أو يومياته حول أشخاص وأحوال وأحداث، عائداً لأيام دراسته للسينما في موسكو/الاتحاد السوفيتي في نهايات ستينات القرن الماضي، وكان رفيقه في الغرفة الروائي المصري صنع الله إبراهيم، الذي حصل يومها على منحة لدراسة السينما ليبرر بقاءه في موسكو، الأمر الذي دفع معلمهما المخرج تالانكين أن يقول للمؤلف؛ مهمتنا ليست أن يتحول صنع الله إلى سينمائي، بل أن تكون السينما في نسيج تجربته الأدبية، وقد امتدت فترة اليوميات/الكتاب حتى نهايات ثمانينات القرن الماضي، وجاءت حول فنانين سينمائيين ومخرجين كالسورريين شريف شاكر وعمر أميرالاي صاحب فيلم الطوفان وفردوس عبد الحميد والمخرج المسرحي يوري لوبيموف، كما تحدث المؤلف عن مهرجانات سينمائية اشترك في لجان تحكيمها، كمهرجان قرطاج السينمائي ومهرجان لايبزغ للأفلام الوثائقية، وتحدث أيضا عن أحلامه التي شكلت جزءاً كثيراً من نسيج أفلامه، فعينه لم تعد كما يقول إلا عدسة تطبق على نفسها، لتلتقط صور المنام.



الثلاثاء، 19 يناير 2021

الحاكم المستبد والشعب المنتفض

 

الناشر:الدار  العربية للعلوم ناشرون-بيروت

تاريخ النشر: 2020



* فؤاد مطر صحافي لبناني له مجموعة كبيرة من الكتب، وهو كما تقول سيرته الذاتية المتوفرة على الشبكة العنكوبتية، متخصص في الشئون العربية، خاصة شئون مصر والسودان وليبيا والعراق والسعودية، وقد كتب حول السودان وحده أربعة كتب في الفترة الممتدة من 1971 إلى 2020 ( الحزب الشيوعي السوداني نحروه أم انتحر؟/  المصالحة الوطنية الأولى في السودان انتكسوها أم انتكست؟/ سنوات النميري بحلوها ومرها ). رابعاً وأخيراً هذا الكتاب الذي جاء حول وقائع ثورة ديسمبر 2018، وبعيداً عن التحليل المركزي الذي ينظم هذه الوقائع، إذ ينظر المؤلف للإتقاق السياسي الذي تم بين المدنيين والعسكريين في السودان، كجديد أو كتميز في المنطقة العربية، بإدخاله صيغة الإنقلاب الثنائي (مدني/عسكري) علي حتمية التغيير، والمؤلف يحتفى بهذه الصيغة التي لم تحدث، كما يقول، في دول تونس ومصر والجزائر المنتفضة التي بقيت مقاليد السلطة فيها بيد العسكر، يحتفى بها دون أن يثير اهتمامه أو يشير لطبيعة انحيازات هذه السلطة/الصيغة ومصالح حلفاءها داخل السودان أو خارجه، ودور هذه المصالح/التدخلات الأساسي في إيجاد هذه الصيغة/السلطة، ومع ذلك تكمن أهمية هذا الكتاب في شمول تغطيته الصحفية الموثقة التي غطت تقريبا كل ماحدث ووقع خلال عامي الثورة الأولين. 



الجمعة، 8 يناير 2021

مذكرات حسن عطية

 

الطابعون المركز الطباعي الخرطوم

تاريخ النشر: 1988




عرض: هشام مكي حنفي


* مذكرات حسن عطية بقلمه؛ كما سماها صاحبها تعكس سيرة فنان ومدينة ومجتمع بل وحياة السودانيين خلال عقود عدة من القرن العشرين، و هو على صغر حجمه و رغم أن كاتبه قدمه باعتباره مذكرات شخصية، إلا أنه وثيقة جيدة توثق للحياة السودانية من منظور متفرد ولزمن قلت الكتابة عنه بأقلام سودانية، فالأستاذ حسن عطية كما يكتب عن نفسه هو ابن مدينة الخرطوم التي كانت تقع ما بين السكة حديد و النهرين، وقد ولد فيها في العام 1921، قدم الكتاب وصفاً جغرافياً و اجتماعياً فريداً للمدينة في ذاك الوقت حيث تحدث عن حدودها و تقسيمها الجغرافي لأربعة أقسام على رأس كلٍ منها عمدة بالإضافة  للقسم الأوربي حيث المباني الإدارية و سكن الجاليات الأوربية. لغة الكتاب لطيفة غير متكلفة، تشبه الأنس السوداني في كثير من المواقع كما تتخللها أحياناً بعض التعابير الدارجة من العربية السودانية.

* تتناول المذكرات جوانب من الحياة الاجتماعية و الثقافية و جغرافيا مدينة الخرطوم في ذلك العهد، ففي الباب الثاني من الكتاب يصف الأستاذ حسن عطية كيف كان يتم الاحتفال بالمولد النبوي و يعطي وصفاً دقيقاً لنوع من المهرجانات الشعبية اختفى من حياتنا، كذلك يتطرق للتنظيم الإداري فيصف تقسيم المدينة الإداري و أسماء العمد الذين كان كل منهم يختص بقسم من المدينة و يصف بدقة المتاجر والمحلات العامة من جزارات و محلات خضار ومطاعم و المقهى الافرنجي الذي يتوسط البلد (لورد بايرون) و المقاهي البلدية ثم ينتقل إلى الإندايات أو الأنادي في الخرطوم و يعطي ملمحاً عن صفتها و طريقة إدارتها و كيف أنها كانت تتوسط الأحياء حيث لكل حي إندايته و يقول في ذلك "و الإنداية منقولة من شبيهتها محلات (البب) بانجلترا أي الأندية الليلية التي تنتشر هناك في كل حي"، و هذا يعكس نوع و مدى ثقافته و معارفه العامة التي تكونت من السفر و الاختلاط بالناس بالإضافة للقدر الذي تلقاه من التعليم.

* خلال عقدي الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي طرأ تطور اقتصادي- اجتماعي على مختلف مجالات الحياة في السودان شمل بالطبع ممارسة الغناء و الموسيقى، فمع نشأة الإذاعة (1940) و دخول عدد من أبناء القطاع الحديث إلى هذا الحقل بما لهم من قدرٍ من تعليم و ثقافة مدينية تحول هذا النشاط من محض ممارسة مجتمعية عفوية إلى مهنة لها أصول و قواعد و انعكس هذا التطور على المغنيين و الموسيقيين و على الفن الغنائي بأكمله. 

* يذكر الأستاذ حسن عطية كيف أنه تردد عندما عرض عليه أن يغني في الإذاعة أول مرة لتخوفه من رفض أهله و يشرح ذلك بقوله "فقد كانت نظرة المجتمع للمغنيين ظالمة وكانوا يسمونهم (صعاليك) ويوضح كيف أن المغنيين قبلهم في بادئ الأمر كانوا يذهبون إلى بيوت المناسبات يغنون فيها و يبقون طوال أيام المناسبة مقابل الضيافة و ما يكرمهم به أهل الدار، ثم كيف أن الانتقال الذي حدث فيما بعد عندما بدأت الإذاعة بالتعاقد مع المغنيين لتقديم وصلات غنائية مقابل أجر جعل لهم وضع محترم و عمل بمقابل.

يقدم الكتاب توثيق مهم و نقل حي للحياة الاجتماعية في العاصمة و عديد من مدن السودان في الوقت الذي يغطيه و يحكي عن الحياة زمن الحرب العالمية الثانية و أثرها على حياة الناس و يذكر كيف أن الحرب كانت السبب في إنشاء الإذاعة لأغراض دعائية لصالح الحلفاء و أن إدخال الغناء فيها كفواصل بين فقرات الأخبار كان جزء من هذه الدعاية ثم صار أمراً أصيلاً قدم خدمة قيمة لفن الغناء و للموسيقى في السودان. 

* من اللحظات المهمة في الكتاب عندما يتناول الأستاذ حسن عطية اللحظة المفصلية في حياته المهنية عندما كان عليه الاختيار بين الاستمرار في الوظيفة ذات الراتب الجيد و المكانة الاجتماعية المرموقة في الحقل الصحي أو التفرغ للغناء بالتزامات التسجيل في الإذاعة و الرحلات الفنية و كيف أنه قرر في النهاية التضحية بوظيفته لأجل احتراف الغناء مما يوضح تعامله الجاد مع الغناء و كونه أحد الرواد الذين صنعوا لهذه المهنة مكانة محترمة.

* تحدث المؤلف كذلك باستفاضة عن مشاركاته الفنية و زملائه أيام الحرب العالمية الثانية  في أريتريا و ليبيا للترفيه عن الجنود السودانيين المشاركين في الحرب ثم زيارته اللاحقة لأريتيريا و بقائه لعشرين يوماً في أسمرا و لقائه الفنان الرائد سرور في هذه الرحلة و في هذا يشيد بالدور الكبير للفنان سرور في نشر الأغنية السودانية هناك. يتحدث الكتاب كذلك عن مشاركات الفنانين في الرحلات الداخلية في مدن السودان المختلفة حيث تطرق لزيارة طريفة مع الفنان الكبير إبراهيم الكاشف و آخرين إلى مدينة لفاشر.

* في الختام نقول أن كتاب (مذكرات حسن عطية) مثَّل جزء أول من هذه المذكرات كما أشار هو في نهايته و أعلن أنه سيتبعه بجزء آخر لكن لا نعلم إن كان هناك جزء آخر قد صدر أم لا، لكن في كل الأحوال فإن هذا الكتاب مهم للمهتمين بتاريخ الخرطوم و بتاريخ الغناء و الموسيقى و بسيرة الفنان العظيم حسن عطية فوق أنه ممتع.