الأربعاء، 11 نوفمبر 2015

سيرة المثقف العضوي


اسم الكتاب: حسين مروة
ولدتُ شيخاً وأموتُ طفلاً - سيرة في حديث*
حوار: عباس بيضون
الناشر: دار الفارابي – بيروت
تاريخ النشر: الطبعة الثانية 2011




عرض: أسامة عباس

* بخلاف، أو بجانب، الآراء المتباينة التي بحثت في سؤال لماذا أغتيل حسين مروة؟! كاعتباره رمزاً شيعياً رغم تحوله باكراُ إلى الشيوعية، أو بسبب كتابه المُنَوِّر "النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية" ، يرى د. هشام غصيب** أن إغتيال حسين مروة مع رفيق حزبه مهدي عامل، كان يهدف لفصم العلاقة بين المثقف والحزب، حيث يكون الحزب جسراً للمثقف وللشارع، حزب يعمل لحركة نهضة شاملة، وليس مطلبياً وحسب. و بحسب د. غصيب، مروة وعامل والحزب الشيوعي اللبناني، كانوا النموذج الساطع لجدية هذه العلاقة بين الحزب والمثقف، وسط الأحزاب العربية، مشيراً لمؤتمر الحزب المنعقد في 1968م، حيث حَدَّد دوره كحركة تحرر وطني شاملة، مُكلفاً مروة بكتابة بحث في التراث الإسلامي. وفي هذه السيرة/الحوار يُخبر حسين مروة بعروة هذه العلاقة، التي بدأت حينما انتبه الشيوعيون اللبنانيون لما يكتبه مروة في الصحف، ثم إنضمامه للحزب ودخول لجنته المركزية وتفرغه عشرة أعوام كاملة لإنجاز مشروع بحثه؛ قائلاً إنه لم يكن لينجز كتاب "النزعات" لولا هذا التفرغ الحزبي.

* في تقديمه لهذا الحوار/السيرة يصف الشاعر عباس بيضون، حسين مروة الذي كانوا يظنونه قبل تطور علاقتهم به، شيخاً من حراس العقيدة وهو السبعيني الشيوعي إبن الشيعة والنجف، يصفه أثناء حفل عشاء أقيم في عدن أيام مؤتمر إتحاد الأدباء والكتاب العرب الثالث عشر عام 1981، كاتباُ: ( كان العشاء في ساحة القصر والناس إلى الموائد، وعلى مصطبة في الناحية جلس عازفون ووقف راقصون. وكان أبو نزار أول من ترك المائدة وصعد إلى المصطبة ووقف يتابع الموسيقى بقدميه وقامته، كان يرقص وحيداً مكتفياً بنفسه وتوقيع قدميه وفرحته التي انتظمت نفسه وجسده، ما كان أقرب وجهه إلى الرضا وأدناه إلى السعادة والقبول والتحية. لكأنه يزداد ماءً وطراوةً كلما أسّن واكتهل، وما كان لبياض شعر أحد أن يردّك إلى الشباب، بمقدار ماكانت تفعل لمّة أبي نزار البيضاء كأنه وهو يمضي في العمر يسلك إلى يفاع دائم...).

* تلقى حسين مروة تربية صارمة، إذ كان موضع آمال أبيه ليخلفه في عمله الديني، ففُرض عليه منذ الثامنة أن يرتدي "العمامة والجبة" زي رجال الدين، الأمر الذي جعله مضحكاً في نظر أقرانه، فقام باجتنابهم، قاصراً صحبته على والده وزواره، ليقول: ( ومن جملة ما أصابني من هذه التربية حرماني الكُلي من طفولتي). لكنه يرى أن هذه الطفولة الصعبة علَّمته الصبر على تحمل الصعاب ومكابدة الحرمان، لذلك كان يزمع أن يكون عنوان سيرته التي لم يكتبها "ولدتُ شيخاً وأموتُ طفلاً". ويسأله بيضون عن ملامح التغيير الذي بدأ يظهر لديه بعد وصوله إلى النجف/العراق؛ يجيب بدأ ذلك بزيارته لمزاد كان يقام كل أسبوع لبيع الكتب وشراءه لديوان شعر. ليتوالى حكيه عن النجف وطريقة الدرس فيه وحبه للأدب وبدئه في الكتابة وضيقه من النجف وتركه له وعودته مرة أخرى حتى أكمل دورات درسه فيه. كذلك حكى عن اشتراكه في النشاط الثقافي والسياسي في العراق، إلى أن تم ابعاده في عام 1949م وسحب الهوية العراقية التي مُنحت له، وعودته إلى لبنان دون هوية وأوراق، ثم عمله بالتدريس والصحافة وارتباطه بالشيوعيين اللبنانيين وانشائه مع محمد دكروب، تحت اشراف فرج الله الحلو الذي اغتيل عام 1959، لمجلة الثقافة الوطنية.

* وُلد حسين مروة إبن الشيخ علي مروة بقرية "حدّاثا" من قضاء بنت جبيل في جبل عامل بجنوب لبنان في عام 1908، وهو مفكر وكاتب ومناضل من قيادات الحزب الشيوعي اللبناني، أغتيل وهو في التاسعة والسبعين من عمره بمنزله وأمام أسرته في 17فبراير1987م. من مؤلفاته: مع القافلة - مقالات 1952. الثورة العراقية- دراسة في التاريخ الحديث 1985. دراسات نقدية في ضوء المنهج النقدي. النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية جزءان 1978 وهو عمل تأسيسي في مجال الدراسة الماركسية للتراث الفلسفي العربي. دراسات في الإسلام، بالاشتراك مع محمود أمين العالم ومحمد دكروب وسمير سعد 1978. تراثنا كيف تعرفه؟ 1986. دراسات في الفكر والأدب، صدر بعد أغتياله، 1993.

______________________

* نُشر هذا الحوار/السيرة على ست حلقات أول مرة في جريدة السفير اللبنانية عام 1985.
** "المغزى التاريخي الفكري لحسين مروة" مقالة بموقع الحوار المتمدن لـ د. هشام غصيب،.

السبت، 26 سبتمبر 2015

الحياة سياسة




اسم الكتاب: الحياة سياسة 

كيف يغير بسطاء الناس الشرق الأوسط
المؤلف: آصف بيات
المترجم: أحمد زايد
الناشر: المركز القومي للترجمة - القاهرة
تاريخ النشر: 2014






عرض: أسامة عباس


 * يعتمد المؤلف في توصيف هذا التغيير الذي يحدثه البسطاء/الفقراء في الشرق الأوسط على مايسميه بـ (اللاحركات الاجتماعية) وهو مفهوم جديد للنظر في واقع الشرق الأوسط، فحواه تلك الأفعال الجمعية لفاعلين غير جمعيين، من الفقراء والباعة المتجولين، الذين يشيِّدون منازلهم في الأماكن الخالية والبنايات غير المكتملة ويحتلون الشوارع والأماكن العامة، واصفاً هذه الممارسات المتفرقة/المشتركة بأنها أفعالاً مباشرة للتغيير، وليس سياسةً للاعتراض، وأنه خلافاً لما يحدث في الحركات الاجتماعية لاتوجد بين اللاحركات الاجتماعية جمعية أو إيديولوجية أو قادة، كما إن الفاعلين فيها لا ينحرطون في مظاهر التنسيق والاجتماعات لتحزيب الناس أو للتظاهر، ليندرج تحليل المؤلف هذا ضمن الرؤى القائلة بأن أماكن احتشاد الفقراء بؤرة للنضال من أجل المواطنة/الحضرية، خلافاً لكونها تربة خصبة للعنف والجريمة والتطرف الديني حسب التعميمات الشائعة، التي يرفضها المؤلف مع تلك الرؤى الاستشراقية التي نظرت للشرق الأوسط كحالة استثنائية، أي باعتباره واقعاً ساكناً وغير قابل للتغير. 


* لا يقبل المؤلف تلك المداخل النظرية السائدة حول الفقراء، في كونهم سلبيين ومُهدِدِين أو فاعلين سياسيين ومقاومين، فيقدم مايسميه بـ (الزحف الهادي المعتاد) حيث يتقدم الفقراء لأخذ ما في حوزة الأقوياء أو الملك العام، مُجبرين السلطات على توفير الخدمات الحضرية في أماكن تواجدهم، لتكون النتيجة إعادة توزيع للخيرات الاجتماعية وتحقيق الاستقلال للفقراء. ثم يتحدث عن النقابات التي لاتضم كل من يعمل والتابع معظمها للسلطة، وجمعيات دعم الفقراء الإسلامية ذات النزعة البراجماتية خلافاً للحركات الدينية في أميركا اللاتينية التي سعت لـ "تحرير الفقراء" والمنظمات غير الحكومية التي اقتصرت جهودها على الإغاثة والطوارئ، ليقول بعجز كل هذه المؤسسات في مجابهة تحديات التنمية الاجتماعية، فيصبح التحدي كيفية إيجاد أشكال تملك حركية الزحف وتنظيم المؤسسات.


* ينظر المؤلف من خلال مفهومه (اللاحركات الاجتماعية) لنشاط النساء مُشيراً لما حققته في إيران، بلده،
 باقتحامهن الفضاء العام وإثارتهن للنقاش حتى وصلت أصواتهن إلى البرلمان، بواسطة مايسميه (فن الحضور) دون وجود لحركات منظمة، دافعات بقراءات، في مجلات نسائية ايرانية، حول التقسيم التقليدي بين الرجل والمرأة وتفسيرات نسوية أكثر ديمقراطية للإسلام. وتحدث عن حراك الشباب أو الشبابية، التي صارت واضحة المعالم بفضل تقنيات التواصل وضيق الفجوة، بسبب التعليم، بين الشباب في المدن والقرى، وتحولهم لقوة كبيرة ومؤثرة، ذاكراً صدامات الشباب المتكررة للإجهزة الأخلاقية/الرقابية في إيران، كنموذج لهذه القوة، ثم تساءلَ عن الكيفية لامتلاكهم القدرة على إحداث تحول سياسي ديمقراطي؟. وتحدث عن سياسة مُعاداة المرح، مناقشاً رؤى مختلفة حوله في الاسلام والمسيحية وعند مجموعة من المفكرين، وفي تجارب دول مختلفة الإيديولوجيات، ليقول بأن المرح يُمثل تحدياً لهيبة السلطة، لذلك وقفت ضده بغرض إدامة سيطرتها، عبر وسائلها المختلفة للضبط الاجتماعي.   

* وفي فصول تمت إضافتها لأجل هذه الطبعة العربية حول الثورات، يسأل المؤلف هل من مستقبل للثورة في عصر العولمة؟ يجيب بإنه يمكن أن تكون هناك حركات وحتى ثورات، لكن ليس بالشكل الكلاسيكي، أي قيام ثورة للتغيير في حدود هذه أو تلك الدولة القومية المُعينة، ليضيف ربما نحن في حاجة لمراجعة فهمنا لـ "للثورات" بأن ننطر للثورة كنوع من الحراك السلمي المتدرج والمستمر، ناظرا لشكل ثورات تشترك فيها فئات عديدة على امتداد العالم. ثم ينظر للحركات الدينية في العالم الإسلامي، ويقول إنها تأمل في إقامة دولة إسلامية، وفي زخم المشاعر الدينية التي تنتشر في مدى واسع من العالم الإسلامي، ومع الحساسيات الديمقراطية، من المحتمل أن تصير الدورب ممهدة بواسطة الكفاح "الإصلاحي" لإحداث تغيير ديمقراطي يكون للإسلام فيه دور كبير، لتصبح ما يسميها بـ (ما بعد الإسلاموية).


* يَدَرِج المؤلف توجهات ثورات العالم العربي، في (ما بعد الإسلاموية) وهي إتجاهات بديلة، لتجاوز الدولة الدينية وانتهاك حقوق الانسان، ليست إسلامية أو علمانية، لكنها تنطلق من الدين وتأمَل في مجتمع ديمقراطي، ينصهر فيه التدين مع الحقوق والعقيدة بالحرية والإسلام بالديمقراطية. ليختم بالحديث عن أسباب انطلاقها، مشيراً لظهور عدد من التطورات السياسية والاقتصادية، وازدياد حدة الفقر بسبب سياسة التحرير الاقتصادي، ودخول فاعلين جدد لهم تطلعاتهم، يقصد الشباب، الذين استفادوا من أساليب التواصل الجديدة في التعبئة والتحريض، لكنه يقول بإن الشباب وحدهم لايصنعون الثورة إذ لم تنضم إليهم الفئات الأخرى. ثم يسأل هل ماحدث ثورة أم إصلاح؟ مقارنا بين ماحدث في تونس ومصر، والذي وصفه بالسريع والمثير، ومايحدث في ليبيا واليمن وسوريا، وبين ماحدث في دول أخرى أوربية ولاتينية، ليقول إن التحدي في كيفية الابتعاد عن النظم القديمة وعدم العنف وسيادة مبادئ الاندماج والعدل.  




الخميس، 17 سبتمبر 2015

تقشير البصلة




اسم الكتاب: تقشير البصلة - سيرة ذاتية ومذكرات

المؤلف: غونتر غراس
المترجم: عدنان حسن
الناشر: دال للنشر والتوزيع - دمشق
تاريخ النشر: 2014




عرض: أسامة عباس

* يُعد غونتر غراس (1927-2015) من الشخصيات الثقافية المرموقة المُتدخلة في الشأن العام، في ألمانيا وخارجها، كاعتراضه على طريقة الوحدة بين الألمانيتين، أو اتهامه المستشارة الألمانية انجيلا ميركل بالجبن السياسي إبان أزمة التجسس الأمريكي على ألمانيا، وتنديده بإسرائيل وأمريكا في قصيدته (ماينبغي أن يُقال) أو رفضه حينما زار اليمن، عرض علي عبدالله صالح لمنحه وسام، مشترطاً قبوله بالكف عن ملاحقة الكاتب اليمني وجدي الأهدل الذي كان هارباً يومها بسبب روايته (قوراب جبلية). لذلك عندما صدرت هذه المذكرات أثارت الكثير من الضجة، وقوبل اعترافه بأنه كان ضمن إحدى الفرق القتالية الخاصة، زمن النازية، بالصدمة، وعُدَّ اعترافاً متأخراً، لكن هذا الاعتراف يظهر بالمذكرات كنتيجة طبيعية، في حياة فوارة لصبي ومراهق يضجره المنزل ويهجس بالفرار والمغامرة، وأمامه وحوله آلة دعاية حربية ضخمة تتشدق بقيم الإقدام والبطولة والتضحية من أجل الوطن. والبصلة هنا في المذكرات ذكرياته ينزع قشورها قشرة تلو أخرى، حتى تطن أذنه بسبب ماصمت عنه، لكنه يريد أن تكون له الكلمة الأخيرة.


* تَتَنَقّل المذكرات أو يدمج مؤلفها بين ماحدث له وماعالجه من تلك الأحداث في كتب سابقة، كأن يُخبر بمصدر تلك التفصيلة أو غيرها في تلكم الكتب، كما ينقُل مشاعره المشبوحة بين ماحدث ومايتذكره الأن، مبتدراً مذكراته بطفولته التي انتهت عندما اندلعت الحرب العالمية الثانية، واشتراكه في السادسة عشر من عمره، كرامي دبابة لم يطلق طلقة لكنه أصيب وأُسر، لتشغل الحرب ما يقترب من ثلثي الكتاب، حاكياً عن وداعه لأمه وأبيه وشقيقته الذين دمرت الحرب مدينتهم وطفقوا لاجئين، ليجدهم بعد عامين في مدينة اخرى. ويحكي عن رفيقهم في التدريب الذي منحوه اسم "نحنلانفعلذلك" بسبب افلاته كل مرة عن قصد للسلاح كلما قُذف إليه، مردداً عبارة (نحن لا نفعل ذلك) ليتم ابعاده دون أن يسأل المؤلف أو الفتى الذي كانه إلى أين أخذوه؟! فتطن أذنه بسبب ذلك الصمت.


* أفرد المؤلف للخوف والجوع للطعام وللنساء وللفن أوراقا كثيرة في مذكراته هذه، الخوف الذي بدأ يعرفه، منذ ركوبه لقطار الشحن/الحرب ورؤيته للمدن المحطمة بفعل القذائف والجموع الزاحفة في الشوارع والجثث المعلقة علي الأشجار، الي أن حدث الاشتباك وتشتت وحدات الألمان العسكرية، فسقطت منذ تلك اللحظة بالنسبة له سلطة الرايخ الثالث، السلطة التي كان ضعضعها من قبل عناد "نحنلانفعلذلك"، ليهيم وحده في الغابات والقرى الخالية، بحثا عن نجاة أو رفيق، إلى أن يجد عريفاً يدله للطريق، فيُمجّده مع جندي آخر عَلّمه إبان فترة الأسر، الطبخ الخيالي، إذ كان يقدم شروحاً مطولة لوصفات طعام متنوعة دون وجود لتلك الأصناف المشروحة، قائلا إنهما من صار يؤمن بهما، بعد أن أصبح غير متسامح مع أي ايمان، سواء بالفوهرر أو بالله، إذ أنقذ الاول حياته واستطاع الثاني أن يسكت جوعه، حتى ولو خلال فترة درسه التي كانت تستغرق الساعتين.


* وفي المجمل تكشف المذكرات بجانب تلك القدرة الإبداعية العالية على المزج بين الواقع والخيال واللعب بهما، عن شجاعة كبيرة في تناول الكثير من الوقائع الموجعة، لكن لعل كل ذلك سيبدو مفهوما عندما نقرأ ما كتبه عنه فولكر نويهاوس كاتب مذكرات غونترغراس وناشر أعماله الشعرية : ( يتبنى وجهة نظر غير مألوفة، يحاول الجميع أن يأخذها منه، إلا أنهم لا ينجحون. لا يمكن حرمان غراس من مزايا وظيفية أو راتب حكومي، ولا يمكن طرده من مكتب. كل ما لديه عمل هو بنفسه لإحرازه. والآن يقول البعض أن عليه التخلي عن جائزة نوبل، وهو الشيء الوحيد الذي يمكنه عمله. يمكنه أيضاً التخلي عن عضويته الشرفية في نادي القلم الألماني. إن غراس هو نموذج نادر لشخصية شهيرة ومستقلة في نفس الوقت، وهذا إنجاز يعود الفضل فيه له وحده).

الخميس، 20 أغسطس 2015

الثقافة كدين




اسم الكتاب: إدوارد سعيد والمؤثرات الدينية للثقافة

المؤلف: وليام د.  هارت
المترجم: د. قصي أنور الذيبان
المراجع: د. أحمد خريس
الناشر: هيئة أبوظبي للثقافة والتراث - كلمة
سنة النشر: 2011م




عرض: أسامة عباس



* في عام 1985 دار سجال بين مايكل فالزر اليهودي الأمريكي وإدوارد سعيد الفلسطيني الأمريكي، حول كتاب الأول عن قصة خروج العبرانيين/ اليهود من مصر وغزوهم لأرض كنعان/ فلسطين، لكن سعيد لم يقبل قراءة فالزر لذلك الخروج بأنه كان قصة حول الثورة، فشن مايسميه وليام هارت هجوما بالستياً على الكتاب. بيد أن مارأه هارت في ذلك السجال ومايحاول بسطه في هذا الكتاب، هو تمظهر ذلك الاشتباك الديني/العلماني لدن إدوارد سعيد الناقد العلماني، فيصيغ أربعة أسئلة لتحليل هذا الاشتباك: هل الدين وصفة جيدة للتضامن الإثني والعرقي والقومي ولماذا تتحول النقاشات المتعلقة بها الى نقاشات متعلقة بالدين؟. هل الوعي الديني والوعى النقدي غير متوافقين ليصبح الالتزام الديني تسوية للنقد الراديكالي؟. هل اكتمل نقد الدين كما قال ماركس وهل سيكتمل مستقبلا؟. ما هي نوع العلاقات الملائمة التي يمكن أن تربط النقاد العلمانيين مع الدين؟.


* يتضامن المؤلف مع إدوارد سعيد في ذلك السجال، لكنه يضع مسافة بينهما ليفحص هذا الاشتباك من خلال ما أنتجه سعيد، قائلا إنه خلافاً لمعظم النقاد العلمانيين حمل طوعاً عبء سؤال الدين، كما نظر إلى الثقافة كـ "مظلة مقدسة تَحوي وتُقصي في الوقت ذاته". لينطلق من خلال مايسميه بالمؤثرات الدينية للثقافة، أو التديّن الثقافي، للنظر في مفاهيم الثقافة والقومية والاستشراق والامبريالية عند سعيد وغيره من المفكرين، مناقشاً ما بداخل تلك المفاهيم، من تصورات عن الإيدلوجيا والطبقة والعرق، في إرتباطها مع الدين، وكمعميات أصبحت قارة، لتكون بالتالي محل نقد إدوارد سعيد، لما فيها من أشكال وعي زائف وإدراك خاطئ، ولأنها صارت نظام من التمثيلات يعمل على تعمية العلاقات الاجتماعية، ولأنها أصبحت الأوثان الجديدة للتبجيل.


* للنظر في رأي إدوارد سعيد حول التزام المثقف بقول الحقيقة للسلطة، يعود المؤلف لمناقشة حوار دار في سبيعنات القرن الماضي حول "الطبيعة الانسانية: العدالة أو القوة؟" بين نعوم تشومسكي وميشيل فوكو الذي يرى إن الحقيقة والسلطة هما الشئ نفسه، فيقول هارت إن الفرق بين فوكو المتأثر بنيتشه وتشومسكي الذي يناصره سعيد، يكمن في أن فوكو راديكالي معرفي "مهووس بنوع مستحيل من أنواع الذات الثقافية أكثر من هوسه بمجتمع جيد .." وإنه محبط تحكمه معايير الحالم المثالي، في حين تشومسكي راديكالي سياسي، يخضع لمعايير المحارب السياسي. ثم يقول إن فوكو يرى في موت الإله موتا للإنسان، ليكون إدوارد سعيد بالتالي ربما أقرب إلى نيتشه الذي يعتقد في قول الحقيقة وإن لم تكن للسلطة، من فوكو وريث نيتشه المفترض.


* يوافق هارت إدوارد سعيد في رؤيته لمفاهيم مشيل فوكو وجاك دريدا وتيارات مابعد الحداثة ومابعد البينيوية بكونها أخروية مسيحية وعودة للتدين المكبوت، لكنه يرفض عد العلمانية أنها الآخر للدين، إذ لايمكن برأيه فهم العلمانية دون الدين، فماركس ونيتشه لا وجود لهم لولا اليهودية والمسيحية، ولا وجود لإدوارد سعيد لولا الأخرويات الدينية المتنازِعة في فلسطين، ولا المسيح الدجال لولا المسيح. كما يرى أن التمايز بين العلمانية والدين لا أهمية له في النقد الراديكالي، فالمهم هو نقد تلك الاشياء المشتركة بينهما: الدوغمائية والتقيد الفكري وإلقاء المسوؤليات والسلطة المستبدة والسلطة المقيدة للحريات والرياء والكذب. ثم يقدم تصوره  للبراغماتية و للتدين في معرض مناقشته لعدد من المفكرين الأمريكيين، ليقول إنه يمكن للمرء أن يكون علمانياً ومتديناً في آن، فالدين لا يشكل مشكلة إلا عندما يقوم بعلاج ما يمكن للسياسة أو الدواء أو التكنولوجيا ان تقوم به بشكل افضل.


* وفي ختام كتابه يعود وليام هارت لسجال سعيد ومايكل فالزر، رابطاً له بنزاع كان قد دار بين جان بول سارتر والبير كامو في خمسينات القرن الماضي حول الجزائر، ليتجدد ثانيةً بين فالزر وسعيد، قبل نزاعهما حول قصة الخروج، فالوضع في الجزائر، بحسب المؤلف، يماثل وضع فلسطين وإسرائيل المعاصر بالنسبة للاثنين.

الخميس، 13 أغسطس 2015

الذاتية في العمل الصحافي





اسم الكتاب: تجليات الذاتية في العمل الصحافي

أحد عشر درساً حول دور الأفراد في إنتاج الخبر
المؤلف: سيريل لوميو
المترجم: عز الدين الخطابي
الناشر: المنظمة العربية للترجمة - بيروت
سنة النشر: 2015




عرض: أسامة عباس


* يحصر هذا الكتاب نقاشه أو يُسلط نظرته، بواسطة باحثين اجتماعيين، على الصحافي/ة ووسائط الاعلام في فرنسا، عبر حالات/ نماذج مُتعينة منذ أواسط القرن التاسع عشر وحتى يومنا هذا. لكن الكتاب برغم هذا الحصر يكشف، 
حول مسائل الذاتية والحرية واختيار مهنة الصحافة والابتكار فيها، الكثير مما يمكن تعميمه على كأفة الوسائط الاعلامية، وذلك من خلال قسميه (مجالات المناورة/ حب المهنة) اللذين ضما 11 فصلا قدمها 11باحثا وباحثة، عن صحافيين وصحافيات ووكالات أخبار وقنوات تلفزة وشبكات انترنت، ولم يعتمد هؤلاء الباحثون، أيا من الأطروحتين القائلتين: بـ إما الخضوع التام أو الحرية الكاملة، للصحافي/ة في المؤسسات الإعلامية، لأنهما كما يرون ليست واقعيتين ولا تُبرِزان ما يحدث بالفعل في صالات التحرير. 

* لا تتمثل الإكراهات التي يواجها النشاط الصحفي/المهني في الامتثال لما يريده أصحاب المؤسسة فحسب أو رئيس التحرير الموجود غالبا تحت اشرافهم، فهناك إكراهات أخرى يبحث فيها الكتاب، كاشتراك مهنيين ذوي تخصصات مختلفة، منهم مديري أعمال لاعلاقة لهم بالصحافة ومسوقين اعلانيين، يساهم كل منهم بجزئية في المنتج الاعلامي، ثم في اضطرار الصحافي/ة للعمل وفق الزمن المحدد لتسليم المادة ووفق الحجم المحدد سلفا لمقياس المادة حتى لو اقتضى الامر تقليص حجم المادة لتناسب ذلك المقياس. أما الاستقلالية فيتحدث عنها مؤلفو الكتاب، في ذلك المستوى الصراعي/ التفاوضي بين المؤسسة والصحافي/ة ثم بين المصادر والجمهور، إذ لا يمكن النظر الى الاستقلالية من خلال ذلك التعارض البات بين الفرد والمؤسسة المنتجة.


*  يقدم الكتاب تجربة موقع ميدبار الاخباري الالكتروني، في فرنسا، الذي تأسس في عام 2008 للإفلات من قبضة المؤسسة ورأس المال بواسطة أربعة صحفيين بينهم إيدوي بلينيل رئيس تحرير جريدة لوموند السابق وصاحب كتاب من أجل المسلمين، يقدمها كنموذج جديد للصحافة بعد انتشار الانترنت. إذ يتيح الموقع لقرائه الفرصة ليكونوا شركاء ومؤلفين في انتاج الخبر الذي يباع لهم، فالموقع يعتمد فقط على مايدفعه مشتركيه من مال، مع تغيير كامل في حسابات مقياس الزمن وحجم المادة، فلا يلاحق الموقع أي خبر، بل يتابع عددا قليلا من الأخبار المُختارة يعمل عليها خلال اليوم، مع اشتغال المحررين في أكثر من عمل من حيث التحرير والتقنية الرقمية، الشئ الذي يرفع مستوى الاستقلالية والقدرة الابداعية، كما يعطي الشعور بامتلاك عملية الانتاج. 


* وفي الفصل المخصص لجان هيبوليت دو فيلميسان صاحب جريدة لوفيغارو الفرنسية، يرى الباحث أنه كان ينظر كتاجر للصحف التي أنشئها، أي باعتبارها منتوجات يجب العناية بشكلها وليس بمضمونها كي ترضي الزبون. وقد جاء فيلميسان أصلا، كما نقرأ في هذا الفصل، إلى عالم الصحافة بالصدفة بسبب صداقته لأحد المتعاونين بالصحافة، بعد تجارب تجارية عديدة فاشلة. ليقول الباحث إن هذا التصور التجاري أو الرهان العملي لفيلميسان ولأخرين، يمثل تغييرا في التحديد الادبي للصحافة، ليصير الصحافي/ة في هذا التصور، ليس مطالبا بالتفكير ككاتب يحمل رسالة تنوير الرأي العام، بل بكونه مجرد متعاون في مقاولة ذات هدف تجاري.


* ويتناول فصل (حفاظ المرء على مهنته كصحافي...) مسيرة حياة صحافي وجد نفسه مضطراً لتقديم استقالته من الجريدة التي عمل بها لأكثر من ثلاثة عقود، بعد تبدل ادارتها وتغير نظرتهم للعمل الصحافي. وذلك من خلال تسليط الضوء علي الطريقة التي كافح بها هذا الصحافي لممارسة مهنته كصحافي وانشائه لموقع الكتروني.. ليختم الكتاب قوله بانه أراد من خلال تلك البحوث الأحد عشر التي قدمها انه يمكن تحليل ظواهر مثل الشخصية والابتكار وحرية الاختيار بوصفها ظواهر اجتماعية.



الأربعاء، 27 مايو 2015

السياسة والجندر في السودان



إسم الكتاب: السياسة والنوع الاجتماعي (الجندر) في السودان

الإسلاموية، الاشتراكية، والدولة
المؤلفة: سوندرا هيل
ترجمة وتحرير: شمس الدين الأمين ضو البيت
الناشر: مركز سالمة لمصادر ودراسات المرأة/ الخرطوم
سنة النشر: 2011م






عرض: أسامة عباس


* بخلاف الرأي السائد عن امتلاك الشيوعيين والإسلاميين في السودان لرؤيتين متعارضتين تجاه النساء، ترى مؤلفة هذا الكتاب أن الحزبين كانت لهما نفس الرؤية أو ذات النظرة للنساء، إذ قام كلاهما، الحزب الشيوعي السوداني والجبهة الإسلامية القومية "المؤتمر الوطني" بمَوضَعة النساء لخدمة أهداف حركتيهما الذكوريتين. ولما كان فحصُ الباحثين في مجالات النوع الاجتماعي (الجندر) وجد، كما تقول المؤلفة، إن الدولة والأحزاب السياسية تخدم أجندتها الخاصة من خلال استغلالها للهويات الاجتماعية والثقافية للنساء، يصبح السؤال المركزي لخطاب النوع الاجتماعي (الجندر) هو: كيف تتجاوب النساء، يتأقلمن مع أو يتجاهلن، يَعَدن توجيه أو يُخربن، مشاريع الدولة والأحزاب السياسية لتشكيل سلوكهن وحياتهن وطرائق تفكيرهن؟ طالما هنَّ أيضاً فاعلات اجتماعيات ولسن متلقيات سلبيات. 


* لا تخفي المؤلفة قلقها أو الكشف عن مآزقها الأخلاقية والمنهجية، المتمثلة في قضايا الثقافة والامبريالية والمركزية العرقية والطبقة، لكنها تتوقع أن تثير مآزقها/تجاربها هذه، وهي الأوروأميركية، الأسئلة القلقة حول القدرة التطبيقية للمنهجين الأنثربولوجي والنسوي، اللذين تتبعهما، عند عبورهما لحواجز العرق والطبقة والتخوم الثقافية. أما مآزقها الشخصية، وهي التي امتدت علاقتها بالسودان لخمسة وثلاثين عاماً، فتتمثل في الإخلاص والخيانة والهجران، لنجد نماذج هذا القلق/الكشف في نقدها للمركزية والنسوية الغربيتين وفي مناقشتها لعدد من النسويات الشرق أوسطيات، وفيما كتبته عن السودان واليسار السوداني الذي ارتبطت في علاقات شخصية مع بعضٍ من رجاله ونسائه، وفي مقابلاتها لعدد من النساء الإسلاميات، لتقول إنها في أحيان كثيرة لم تكن تعرف إن كان فيما تقدمه من وجهات نظر ناقدة بمثابة خيانة.


* صدرت الطبعة الانجليزية من هذا الكتاب سنة 1996م، لذلك تقوم المؤلفة في مقدمتها لهذه الطبعة العربية "المحررة" بالإخبار عما حدث من تغير في مسارها البحثي، كما قّدمت نقدها الذاتي للكتاب، ذاكرة عدداً من النقاط، كتركيزها على الإتحاد النسائي السوداني والحركة الإسلامية النسائية، غافلة بذلك عن غيرهما من المنظمات، ناظرة لذلك التركيز كقصور في التعريف لـ(السياسة) وكنعرة عنصرية، منعها مع غيرها من السودانيين عن النظر، لأنشطة أخرى ذات طابع تحرري وتنظيمي غير "السياسية" من التي تقوم بها النساء ولغير السودان الشمالي. كذلك تذكر إغفالها لنشاط النساء البارز بين الجماعات الداعية للسلام في مناطق الصراعات الدموية في جنوب السودان وجبال النوبة وفي دارفور، ولنشاط النساء في المنفى من الجنوبيات والشماليات.


* بالنسبة للمؤلفة يشترك الشيوعيون مع الإسلاميين بوضع المرأة في مكان الصدارة من "التغيير" وكمستودع للثقافة، باعتبار تحرير المرأة كان في واجهة النضال السياسي للشيوعيين، كما وضع الإسلاميون النساء والأسرة في المركز من الثقافة كأداة لإحياء الثقافة الإسلامية "الأصيلة"، لتقول إنه وفي سياق "سياسات التأصيل" هذه، اقترب كل من العلمانيين والاسلاميين من الجوهرانية، ببحثهما عن الجماهير السودانية "الحقيقية" والجذور "الأصلية" للإسلام السوداني. أيضا قامت المؤلفة بالنظر والتحليل في علاقة الحزب الشيوعي السوداني بالاتحاد النسائي رفيقة السفر كما سمته، قائلة إنها كانت علاقة استخدام للنساء كاحتياطي عمالة للثورة أو كـ (كورس إغريقي) لها، فالحزب لم يناصر أو ينخرط في أي نشاط تغييري جذري يهدف لإيجاد حلول للأدوار الاجتماعية النوعية الجندرية، حتى في داخل منظماته الخاصة، مع أنه كان أول من فتح عضويته للنساء في السودان.


* لا تنظر المؤلفة للإسلاميين أو الإسلاموية، في السودان، باعتبار أولئك المدافعين عنها في الجبهة الإسلامية القومية "المؤتمر الوطني" وحسب، فهي تضم إليهم مَنْ في حزب الأمة، عائدة لنهاية ثمانينات القرن الماضي، حينما تحالف الصادق المهدي وحسن الترابي زعيم الإسلاميين يومها، في حكومة "الوفاق الوطني" التي كانت بمثابة توجه إسلامي بدا ينطلق، يدعمه النشاط التجاري لحزب الإسلاميين. لتصير هذه العلاقة المتطورة بين الإسلام والتجارة، هي الوسيلة لإعداد البنية التحتية للطبقة الوسطى الجديدة من الإسلاميين، لتجد فيها النساء الإسلاميات بانيات الثقافة الإسلامية "الأصيلة" حظهن من الرفاه الاجتماعي، مع تحكم الحزب/الدولة في سياسات وصول النساء للمزايا والنفوذ على المستويين الخاص والعام.




الثلاثاء، 12 مايو 2015

في ساعة العلامات



اسم الرواية: في ساعة العلامات

المؤلف: جمال محجوب
المترجمة: راشدة رجب
المراجع: يسري إبراهيم
الناشر: المركز القومي للترجمة-القاهرة
سنة النشر: 2013





عرض: أسامة عباس



* عقب إندلاع انتفاضات العالم العربي في 2010 قامت صحيفة التليجراف الإنجليزية باختيار ثماني روايات رأتها تُسلط الضوء، أو تكشف عما يحدث في مجتمعات الشرق الأوسط الثائرة، وضمن تلك الاختيارات كانت رواية (في ساعة العلامات) وبالطبع أرادت الصحيفة باختياراتها هذه، أن تُقرب لقراءها صورة ذلك العالم الذي اندلعت فيه الانتفاضات، واليوم لم تخمد هذه الانتفاضات أو يتوقف تصاعُد أحداثها وتداعياتها المُزلزلة، كما أن الرواية، التي صدرت أصلا في اللغة الإنجليزية قبل عشرين عاما، تُرجمت قبل عامين إلي اللغة العربية، فما الذي تدورحوله الرواية، أو بالاحرى ما الذي تكشف عنه (في ساعة العلامات) وقد مر اليوم ما يقترب من القرن ونصف على تلك الأحداث التي جاءت حولها الرواية.


* تجئ الرواية في العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر، منذ أن أعلن المهدي مهديته/الثورة ضد الاتراك الحاكمين يومها للسودان، إلى أن انهارت دولة المهدية في سنة 1899 لكن القارئ يمكن أن يمتد بالزمن إلى الأمَام مائة عام أخرى، ففي الفصل الأخير يتم شنق (حاوي) أحد شخصيات الرواية الرئيسية، وهي حادثة تحيل إلى ما حدث في منتصف ثمانينات القرن العشرين، عندما أعدم جعفر محمد نميري المفكر الاسلامي محمود محمد طه، فالإثنان حاوي وطه، يتمتعان بذات السلوك الصبر والزهد والحكمة ويرددان نفس الأقوال، لكن الشبه بين الزمانين، الماضي والحاضر، لايقتصر على ذلك، فالعلامات تبزغ من خلال الأحداث وحياة الناس وفي أقوال الشخصيات الرئيسية، على امتداد الرواية.  


* نقرأ من مفتتح الرواية (كان الغبار يهب بقوة في السهل الجاف العظمي كورقة تلتف من العالم الخلفي. رجل يسير وحيداً. في المدن والقرى التي تتلوى خلفه ...) إنه عبد الله التعايشي هائما يبحث عن إجابات لما يدور في رأسه، فسمع بالرجل : (سيدي مكتوب في أحلامي أنك المنتظر) ومثله حاوي ذو الذهن المتقد الذي ترك مجالس الدرس وطفق يجول ويبحث في البلدان، ثم عاد يوماً في أسمال بالية يطرق باب صديقه القديم يسأله عن مَنْ يسمي نفسه بالمهدي، ليُصقَع صديقه رجل الدين ويجيب سائلا: أأتيت بعد كل هذه السنوات لأجل هذا المحتال؟!. إلا أن الفرق بين الباحثيين كبير، فالتعايشي تبدل حاله وأصبح حاكماً إلى أن قتله أعدائه الانجلير، أما حاوي الهاجس بصلاح الدين والدنيا، صار ناصحاً للحكام وقاضياً في شئون العباد، إلي أن مات مشنوقاً بين أهله بتهمة الزندقة.


* جموع من الفقراء/المؤمنيين تزحف في الصحراء لتلحق بالمهدي في الأبيض وفي أمدرمان، فقراء لم ينقص فقرهم في زمان الأتراك ولا بعد تحرير الخرطوم، وانتقال زمام الحكم إلى المهدي، وخليفته من بعده عبدالله التعايشي، فقراء يخوضون الحرب، في جهة الشرق والشمال، بايمانهم ولنصرة الدين بلا زاد أو عتاد، لكن الحرب، كما يقول الكدرو أحد شخصيات الرواية، كانت بين الأمس والغد، بعد أن شاهد 
آليات الجيش الانجليزي في وادي حلفا لبناء خط السكة الحديد. وفي أمدرمان كان الشيخ حاوي ينتظر معركة كرري في ترقب وخوف، لأنها كانت فرصة، ليس لطرد الانجليز وليس لأن المهدي قال ذلك، بل فرصة لأهله: هل سيتعلمون كيف يستمعون إلى بعضهم البعض، كيف يمكنهم تحقيق العدل، كيف يحكمون أرضا واسعة كهذه، وهم يحتاجون إلى الوقت.

* جاء في نهاية الكتاب/الرواية مسرد حوى عدداً من الكلمات التي أعتبرت غريبة، مثل عنقريب وجِبَّة وقُرّاصة وراكُوبة وغيرها من الكلمات، لكن مايثير الاستغراب ليس وجود المسرد، بل الأخطاء التي صاحبت كتابة بعض كلماته، ولم تقتصر هذه الأخطاء علي ذلك وحسب، إذ شملت معظم أسماء الأعلام والشخصيات والمناطق التي وردت بالرواية، مثل شيكان وكرري والقلابات وشمبات ولبب مسقط رأس المهدي وأسماء عبدالله التعايشي والأميرين علي ود حلو ومحمد عثمان أبو قرجة وغير ذلك كثير، وهو ما كان يمكن حله بسهولة، عبر الاستعانة بأياً مِن مَنْ يعلم بهذه الأعلام، مصريا كان أم سودانيا! ولكن لابأس.. فنحن أنفسنا لم نستطع أن نُوجِد في السودان مؤسسة ثقافية تضطلع بمثل هذه المهمة الجليلة، التي يضطلع بها (المركز القومي للترجمة) في القاهرة، كنشره واصداره، كمثال، لهذه الرواية.




الأربعاء، 29 أبريل 2015

أصوات ثقافية



اسم الكتاب: أصوات في الثقافة السودانية

مجموعة مقالات
المؤلف: مكي أبو قرجة
الناشر: دار صفصافة للنشر والتوزيع والدراسات- القاهرة
الطبعة الثانية: 2014م






عرض: أسامة عباس


* في واحدة من مقالات هذا الكتاب
 يكتب المؤلف، ان خورخي لويس بورخيس في" مرآة الحبر" حكايته السحرية حول ذلك المريض الذي حكم السودان في منتصف القرن التاسع عشر، لم يأبه لتفاصيل التاريخ أو يتحرى دقته فذلك لايعنيه. ونعم لاتوجد في هذا الكتاب حكايات سحرية، بل مقالات صحفية حول نخب ثقافية ووقائع ومدن سودانية، لكن المؤلف توسل في كتابتها بقدرته العالية على الحكي والاسترسال السلس والمُتقطّع، دون أن يحفل كثيرا بتثبيت مَراجِعه، وإن فعل يجدها مُطالع الكتاب مبثوثة في ثنايا مقالته، المستندة على قراءاته وترجماته ومشاهداته ومارواه له شهود وعلى أحاديث ومراسلات شخصية بينه وبين أطراف أخرى.  

* تظهر جليا في هذه المقالات، محبة المؤلف الكبيرة لكل ما يكتب عنه، يكتب في مقدمته: ( نفعل ذلك في دُجى ليلنا هذا الطويل، فنستدعي بمحبة واحتفاء وجوها عزيزة لنفر كريم من مبدعينا أدباء وفنانين ومؤرخين ومعلمين ومناضلين ونقابيين ومتصوفة وقديسين، رجالا ونساء وأشخاص عاديين من غمار الناس..). ويكتب عبد الجبار عبد الله في الغلاف الأخير من الكتاب ( ولئن كانت المحاذير والإلتباسات الفكرية العديدة، قد أحاطت بمصطلح "الثقافة السودانية" بحد ذاته، وأدخلت استخدامه السائب المطلق، في دائرة النقد والحذر لأسباب ثقافية تاريخية معلومة، فإن هذا الحذر ينتفي تماما مع تصفح هذا الكتاب، الذي يسهم إسهاما مقدرا في تقديم النموذج والمثال، لما تعنيه "الثقافة السودانية" ..).


* يحكي المؤلف في مقالة ( قصص ونودار مع "أصوات وحناجر") مستفيدا من نشرة ثقافية، باسم "أضواء" كان يكتبها الراحل عثمان حسن أحمد بخط يده وأحيانا بماكينة الطباعة، من واشطن حيث عمل مستشارا ثقافيا لسفارة السودان، يحكي عن متاعب الأخير عندما هَمَّ بجمع أوراق وترجمات أستاذه الرائد المسرحي وواضع المناهج ببخت الرضا الدكتور أحمد الطيب، ذاكرا إن عثمان أحمد كتب لأكثر من ستين شخصا من السودان، رد عليه أقل من ثلثهم. وراسل مؤسستين بريطانيتين وأربعة من الفرنجة ردوا عليه أجمعين. ليقول إن محاولاته لجمع مادة الكتاب وطبعه استغرقت أكثر من عشر سنوات، ليصبح ذلك الكتاب " أصوات وحناجر" الذي جاء في عشر فصول تناولت الأدب والمسرح والمجتمع والتعليم.


* وفي مقالة أخرى يكتب، في عام 1948 جاء الخبر الفاجع مات صلاح بشرى الطالب السوداني الشيوعي والسجين السياسي من جراء التعذيب في مصر زمان الخديوية، وخرج الطلاب من جامعة فؤاد في تظاهرة تندد بالاغتيال انضم لها عشرات الآلاف من العمال المصريين في ميدان التحرير، هاتفين ضد الاستعمار والسراي، ثم توجهت الحشود بعد ذلك لتصلي على جثمان الشهيد في مسجد الكخيا بميدان "الأوبرا". وكان القصر أعد طائرة خاصة لينقل الجثمان من القاهرة إلى عطبرة حيث تعيش أسرة الشهيد، وانتدب أحد الباشوات يمثله ليرافق الجثمان ويقدم واجب العزاء لأسرته وللشعب السوداني، لكن طلاب الجامعة أصروا أن يرافق الشهيد أحد قادة الطلاب فكان والقى هناك في عطبرة خطبة نارية هتفت "بسقوط الملك فاروق عدو الشعب وقاتل صلاح". 


* ومما رواه له شهود في عائلته يكتب المؤلف في مقالته ( مأساة مؤرخ.. افترسته الذئاب ) عن إسماعيل عبد القادر الكردفاني الذي كتب " سعادة المستهدي بسيرة الإمام المهدي"  وكتاب " الطراز المنقوش ببشرى مقتل يوحنا ملك الحبوش" وغيرها من المخطوطات الضائعة. وكان الخليفة عبد الله التعايشي قام بسجنه مع مجموعة من امراء وقادة الامام المهدي مثل محمد خالد زقل ومحمد عثمان أبو قرجة وإسماعيل شجر الخيري، في جزيرة على النيل الأبيض قرب جبل الرجاف البركاني في جنوب السودان، مليئة بالحيات والتماسيح والسلاحف، لتضاعف هزات الجبل البركانية من هول الرعب، لإولئك المسجونين السياسيين في أكواخ صغيرة أعدت كزنازين بعد أن قُيدت أرجلهم بالسلاسل، فاستطاع أحد الذئاب أن ينتاش في لحم الكردفاني حتى الموت وأصحابه يسمعون صراخه لكنهم عاجزين عن الوصول إليه بسبب السلاسل.


* نُشرت مقالات الكتاب قبلا بصحيفة الاتحاد بأبوظبي، عدا مقالتين، في الفترة (2000-2004) وبلغ عددها 91 مقالة جاءت في 492 صفحة من القطع الكبير، كتب المؤلف فيها عن أكثر من ستين شخصية سودانية وغير سودانية، مثل رابح فضل الله والقديسة جوزفينا بخيتة، مرورا بخليل فرح، محمد أحمد المحجوب، حمزة الملك طمبل، عبد الرحمن عبد الله، محمد المهدي المجذوب، جمال محمد أحمد، أحمد الطيب، التجاني الماحي، رينقو باولينو دينق، حاجة كاشف، فاطمة بابكر، أزماي توماس، إبراهيم زكريا، عبد الله رجب، إحسان عباس ورفاعة رافع الطهطاوي وغيرهم. وكتب عن مدن، مثل عطبرة وأمدرمان وكوستي والفاشر ومدرسة رمبيك الثانوية، ليصير الكتاب، إذا جاز هذا التوصيف، بمثابة تاريخ اجتماعي ثقافي لجزء ليس قليلا من حياتنا الثقافية في السودان. 



السبت، 28 مارس 2015

ثورة نوبل




اسم الكتاب: ثورة نوبل

المؤلف: شافي آيين
المصور: كيم مانريسا
المترجم: ناصر مريخان
الناشر: ثقافة للنشر والتوزيع-الإمارات
تاريخ النشر: 2011م






عرض: أسامة عباس



(المؤلفين لا ينشأون في بيوت خالية من الكتب)
دوريس ليسينغ


* بدأت فكرة هذا الكتاب عندما طلب المصور (كيم مانريسا) من رفيقه (شافي آيين) أن يحصل له على إهداء، من أيا من الأدباء الحاصلين على جائزة نوبل، لكتابه حول التعليم، الذي يحوي مجموعة من الصور التقطها في مدارس كثيرة من قارات العالم الخمس، لتتطور الفكرة، بقيامهما معاً خلال ثلاثة سنوات، لمحاورة وتصوير ستة عشر كاتباً وكاتبة من النوبليين. ولم تجئ هذه الحوارات في ذلك الشكل التقليدي المعروف، صيغة سؤال وجواب، بل جاءت كل مُحاوَرَة في قالب مقالة ينسجها المؤلف/المُحاوِر من ملاحظاته المتنوعة وإجابات مُحاوَرِيه وتعليقاتهم، كما صاحبت كل مقالة/مُحاورَة فقرة طويلة أشبه بالتقرير تُخبر بالقضية التي يكرس لها الكاتب والكاتبة وقتهما صحبة عملهما الأساس، الكتابة والتأليف، إضافةً لعدد من الصور الفوتوغرافية المُلتقطة من زوايا مختلفة لكل من المُحاورين الذين شملهم الكتاب.


* يذكر (شافي آيين) انهما سرعان مااكتشفا بعد نهاية جولتهم مع هؤلاء الكُتّاب، التزام معظمهم بقضية لا ترتبط بالأدب، فَهُم لايستوعبون دورهم في المجتمع، بحسب قوله، دون التدخل في هذه الجوانب أو تلك، من التي تتجاوز حدود الثقافة، رغم شعورهم بأنهم على هامش حياة مجتمعاتهم. فالكاتبة الجنوب أفريقية (نادين غورديمر) مثلا، تشغلها قضية الإيدز في بلادها. و(غونتر غراس) تشغله قضية الذاكرة التاريخية، يقول، لمحاورييه الإسبانيين، إن مايعجبه في بلدهما أنهم لايزالون يتجادلون حول الحرب الأهلية، التي حدثت في ثلاثينات القرن الماضي. بينما يدافع (في س نايبول) عن حقوق الحيوان، مُمولا عددا من أماكن إقامتها في كل من الهند والباكستان، وبسبب من التزامه هذا، لايزور الصين لأن تعاملها مع الحيوانات رهيب، قائلاً: إن الصين أسوأ مكان إن لم تكن من جنس البشر. 

* تبدأ رحلة الكِتاب بـ ( وول سوجينكا) الذي قام المؤلفان بزيارته  في "آبيوكوتا" بلدته التي ولد فيها، تبعد مسافة ساعة ونصف عن لاغوس/نيجيريا، حيث يعيش في بيت بناه وأقام فيه ورش عمل للكُتاب، بعد كسبه لمال جائزة نوبل، الذي يقول عنه: لقد كسبت مالا أكثر مما كسبت أجيال من عائلتي مجتمعين. ويقود سوجينكا ضيفيه في جولة لسوق بلدته، فيلتقط له أحدهما صورة يظهر فيها وإحدى النساء تلتقط له صورة بعدسة هاتفها النقال، فهناك يسمون (سوجينكا) مانديلا نيجيريا، وقد طُلب منه أكثر من مرة أن يترشح لرئاسة البلاد، لكنه رفض. وماذا عن وزيراً للثقافة؟ لااااا الفنانين أكثر الناس إثارة للمشاكل، ليقول إنه يُفضل أن يكون وزيرا للسجون قبل ذلك.


* وهكذا تتواصل رحلات المؤلفيين، ليقودهما الكِتّاب إلى لندن حيث البريطانية (دوريس ليسينغ) ذات الثمانية والثمانين عاما، يقول شافي آيين، كانت بثياب المنزل وطبيعية جداً، وبعد أن سمحت لهما بالتقاط الصور، سحبت البطانية من الأريكة وطلبت منه الجلوس بقربها، كانت تلك الأريكة مكان نومها، فهي لاتسطيع الصعود لسريرها في الطابق العلوي بسبب آلام الظهر. ويدور الحديث عن روايتها (الأنثي) التي تجئ أحداثها في عصر رجل الكهف رَاوية اللقاء الأول بين الرجال والنساء، لتقول إنه يمكن قراءتها كحكاية رمزية لموضوعات المتعة والعمل والمسؤوليات بين الجنسين. ولدت (ليسينج) لأبوين بريطانيين في إيران، ثم عاشت جزءاً من حياتها في زيمبابوي. قالت في خطبتها لجائزة نوبل إن الحكومات مصدر خجل لمواطنيها، كما دعت بضروة ارسال الكتب إلى القرى النائية المنسية، لأن (المؤلفين لا ينشأون في بيوت خالية من الكتب).


* في استهلاله لمقالة/مُحاورة (توني موريسون) يقول المؤلف تبدو أمريكا لزائر أوربي عادي، مشكلة عرقية، ففي الفندق عاملة التنظيف من العرق الأسود وعبر النافذة يمكن رؤية ست رجال من العرق الأسود ينامون على الرصيف، لكن الأمور تتغير، كما يقول، ففي شاشة التلفزيون يظهر كل يوم رجل أسود هو رئيس البلاد، روايته المفضلة هي "نشيد سليمان" لـ (توني موريسون) التي تحظى باحترام كبير في بلدها، بل إن الناس يوقفونها في الشارع لتحيتها ومعانقتها، فتخبرها إحداهن وكأنها تعرفها منذ زمان طويل ( لم أعد أعجب زوجي كثيراً، أتعرفين؟). في لقاءها الأول مع المؤلفيين رفضت التصوير، قائلة لهم: ( لا، لا تلتقطا لي الصور الأن! انتظرا حتى حفلة نهاية العام في الجامعة، لو سمحتما. عندها سأتأنق وأتجمل).

* من الكُتّاب الآخرين الذين جاءت لهم حوارات/مقالات بالكِتاب، غاو كيسنغجيان، غبريال غارسيا ماركيز، نجيب محفوظ، إمرة كيرتش صاحب " لا مصير". ثم كينزابورو أوي، وديرك ولكوت الذي يفتخر بالمزيج. وويسلاوا زيمبورسكا، داريو فو، والتركي أورهان باموق الذي يقول ( لست مختبئاً، أنا أعيش في اسطنبول) إذ كانت خرجت إشاعة تقول بهروبه خارج تركيا، بعد تهديده بالموت من قبل القوميين المتطرفين من الأتراك، لإعلانه أن هناك أكثر من مليون أرمني وثلاثين ألف كردي، يمكن إثبات أنهم قتلوا في تركيا.


السبت، 21 مارس 2015

الدولة المستحيلة




اسم الكتاب: الدولة المستحيلة

الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي
المؤلف: وائل بشارة حلاق
المترجم: عمرو عثمان
الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات
تاريخ النشر: 2014م




عرض: أسامة عباس



" لم يُعرَف قط مُطالب بحياة البشر أكثر نجاحاً من الدولة "
مايكل والترز


* يرى مؤلف هذا الكتاب أن مفهوم " الدولة الاسلامية " وفق التعريفات السائدة لما تمثله الدولة الحديثة، لا يمكن أن يتحقق، كما أنه ينطوي على تناقض داخلي، إذ يواجه المسلمون اليوم تحدي التوفيق بين حقيقتين: حضور الدولة القوي بمفهومها الحديث في مجتمعاتهم خلال القرنين الاخيرين، ثم الوجوب الأخلاقي لضرورة استعادة شكل من حكم الشريعة، وهو التحدي الذي لم يواجه بصورة يؤبه لها من قِبَّل الدولة في أيا من دول العالم الإسلامي. ويقول إن التناقض في مفهوم الدولة الإسلامية قائم في الأساس على مأزق الحداثة الأخلاقي، ذاكراً إن حل التناقضات في مفهوم الدولة الاسلامية الحديثة مرهونا بالتقاطه لمجمل مايوصف بـ" أزمة الاسلام الحديث" فى ارتباطها  بالأبعاد الأخلاقية لمشروع الحداثة، مما يعني أن حل تلك التناقضات كقضايا أخلاقية، يقود لحل المشكلات السياسية والاقتصادية، النابعة أساساً من هذا المأزق الأخلاقي.


* يُقدم وائل حلاق نقداً عنيفاً للحداثة ناظراً للدولة التي أنتجتها باعتبارها رأس الرمح في السيطرة على الإنسان وفي تصدير خطاب الحداثة، لتكون النتيجة في أجزاء كثيرة من العالم، هي الفقر والجوع والمرض، بسبب الإنسان الذي خلقته والنزعة التصنيعية الذاهبة لدمار البيئة، وليس بسبب الطبيعة، كما كان يحدث في الماضي، مضيفاً لتلك النتائج، التفكك الحديث وانتاج الفرد المغترب والمتشظي والنرجسي، ثم أثار هذا المشروع الحديث على على العالم الطبيعي. ليقدح، مستصحباً رؤية عدد من الكتاب الأوربيين، في صحة اختيار الاطروحات الأخلاقية  لتكوين هذه الحداثة، باعتمادها إمرة العقل وإيمانها المتعالي بأخلاق نقدية وعقلانية وانفصالها النهائي عن المبادئ الاخلاقية التقليدية، لتصير، قُدرة السيطرة على الانسان والطبيعة، هي الناظم الأساس أو النطاق الأخلاقي المركزي لإنسان هذه الحداثة.


* يُناقش المؤلف ماهية الدولة مُوردا عدداً من التعريفات الخاصة بها ، بيد إنه يركز على شكل الدولة وليس مضمونها المتعدد بتعدد المفكرين الذين قدموا تعريفات لها، ذاكراً إن خصائص هذا الشكل هي: في انها نتاج تاريخ محدد كان في اوربا، ثم في سيادتها الميتافيزيقية، أي المستمَدة من ذاتها، ليصبج تحديد ذوات مواطنيها مرتبطاً بذات الدولة، زائداً انتاجها للتشريع والهيمنة الثقافية والعنف. وفي ذلك اختلافها عما كان في الحكم الاسلامي، إذ أن هناك امة، أي مجموع من المؤمنين المتساوين، لاتملك السيادة، فهي لله وحده، وشريعته هي القانون الاخلاقي والسياسي والاجتماعي. لذلك لا يمكن أن يقوم نظام اسلامي دون هذا البعد الاخلاقي-القانوني والسيادة الالهية، كما لا تسطيع الدولة الحديثة أن تكون دون إرادتها السيادية الخاصة بها، أي حقيقتها وهي السلطة.


* قادت فكرة عصر التنوير التي سادت عن الذات المستقلة، إلي الفصل بين "ما هو كائن" و "ماينبغي أن يكون" أي فصل الحقائق عن القيم والأخلاق عن القانون، واعتبار الطبيعة موجودة لخدمة الانسان بلا معنى روحي أو قيمة، ليمكن بالتالي التعامل معها كشئ ودراسته بكل ما لدينا من وسائل تحليل بلا تبعات أخلاقية أو قِيمية، فصارت الدولة وإراداتها السيادية المتمثلة في القانون جزءاً من هذه الرؤية للعالم، بل هي واحدة من البناة الاساسيين لهذه الرؤية. خلافا لما هو الحال في الاسلام، إذ لم يفصل بين "ماهو كائن" و "ماينبغي أن يكون" فالحقيقة والقيمة هي الشئ ذاته، وما هو "قانوني" في القرآن والشريعة هو "أخلاقي" بالضرورة والعكس صحيح، إذ زود القرآن المؤمنيين المسلمين منذ البداية بنظرة للكون قائمة على قوانيين طبيعية أخلاقية، فحواها أن الكون مخلوق ليتمتع به الأنسان، لكن وفق مسؤولية أخلاقية عميقة.


* يقول المؤلف إن الضبط الذي مارسته الدولة الحديثة بواسطة المدرسة والسجن والأسرة المُعاد ضبطها، لايجاد ذلك المواطن المُدمَج سياسيا في ميتافيزقيا الدولة، حتى لصار يتعرف على نفسه فيها، أدى لتصير الامة أو القومية، بعد أن دُمِر النظام الاجتماعي القديم، هي الترياق للذات الحديثة، بل ويمكن الاستنتاج أن الإبادة البشرية وفظائع عصرنا هي منتجات هذه الدولة-القومية، بما هي سبيل للتماهي الروحي عِوضاً عن عبادة الألهة. بينما لم يعرف الحكم الإسلامي ذلك النمط من الضبط والمراقبة الشُرَطية الذي انتجته الدولة الحديثة، وكان التعليم حاله حال الشريعة مستقلاً عن السلطة التنفيذية، بمعنى أن هذه السلطة لم تكن تستطيع أن تنتج ذواتا مرتبطة بذاتية السلطة، فقد كانت ذات الشريعة هي محل العناية بالذات، ليبرز بالتالي ذلك الاتحاد القوي بين الأخلاق والقانون كنطاق مركزي لهذا النظام.


* يختم المؤلف كتابه، اعتماداً على هذا البعد الأخلاقي للشريعة، بتقديم مناهج عمل يراها في: الشروع بتقديم أشكال حُكَم جديدة قابلة للتطور مع إعادة التفكير في الوحدات التي تصنع النظام الاجتماعي-السياسي لمجتمات أخلاقية، تحتاج أن يُعاد لها ثراؤها الروحي، ثم في تفاعل المسلمين خلال عملية بناءهم لهذه المؤسسات الجديدة، مع نظرائهم الغربيين، لجعل الأخلاق هي النطاق المركزي، الشئ الذي يتطلب تطوير مفردات تهتم بمفهوم الحقوق في سياق نظام أخلاقي متنوع يناسب كل مجتمع، ليفهمها أؤلئك المحاورين، إذ أن أي نظرية حقوق ذات طبيعة أو نزعة عالمية، لا مصير لها سوى الفشل.



السبت، 28 فبراير 2015

الرسم على الهامش




اسم الكتاب: الرسم على الهامش
المؤلف: عبد الله محمد الطيب
الناشر:  دارسيبويه للنشر / بيرمنغهام-بريطانيا
تاريخ النشر: 2014م





عرض: أسامة عباس



* منذ سنوات طويلة كان عبد الله م الطيب، وهو بعد طفل، يرسم على هامش كتاب المدرسة، واليوم وقد تجاوز الستين من عمره يرسم في ذلك الهامش الذي إنسحبت إليه حياتنا الثقافية. وإذا ما استطاع هذا الهامش أن يبتلع ما كان يمكن أن يكون مؤسسة ثقافية في السودان، فإنه لم يستطع أن يُطفئ شغف هذا الفنان وعذوبته أو يُخفف من عناده، مثله مثل ذلك الطفل الذي يذكره في هذا الكتاب، طفل دفع أمه، بسسب إزعاجه وضجيجه، أن تقرر ذات صباح: (أسمع! بعدين لمن يفِكُوكُم من المدرسة، تمشي دكان جدك تنتظر أبوك وترجعوا سَوَا) ولم يَسَلَّم جده ولا دكانه من شغب الطفل وبحثه، ليحصل في ذلك الدكان على مجموعته الأولى من المجلات المصورة والكتب غير المدرسية وغيرها من اللقِيات.


* لا يحكي هذا الكتاب سيرة المؤلف، فهو يُخبر منذ البداية، إنها ليست سيرة ذاتية، لكنه استعان بلمحات كثيرة من سيرته، لإضاءة مشهد علاقته بالرسم والتشكيل وانخراطه في العمل الثقافي العام، منذ أن كان طالباً في المرحلة الثانوية، لينقل عبر هذه الإضاءة، العتمة التي يعمل فيها التشكيلي وتأملاته في الواقع الثقافي متقاطعاً مع السياسي في الفترة من أواخر السبعينات والثمانينات في السودان، متمنياً أن يتصدي أخرون، من مواقع مغايرة للرؤية، لتقديم شهاداتهم عن بعض ماذكر. أيضا شملت هذه التأملات/الشهادة، بعضاً من تجاربه في تدريس الرسم وعرض لوحاته، في كل من مصر وليبيا والسعودية، وأخباراً عن نشاطه التشكيلي في السودان وفي دول أخرى مثل الكويت وتيشكوسلفاكيا السابقة واليابان وألمانيا وفرنسا. 



* يحكي عن علاقة أمه بالرسم على الملاءات والمفارش ومراقبته وهو طفل لما تفعل، ويكتب عن مدينة طفولته القضارف واصفاً صيفها وألعابهم فيه ومايصنعونه من البقايا والمخلفات، ناظراً لأطفال هذا الزمان الذين حرمتهم أفلام الكرتون وألعاب الفيديو من أن يصنعوا بأنفسهم شخصياتهم ومغامراتهم. وبعين الرسام يحكي عن الحريق وتركه اللعب مع أقرانه، ليركضوا في إتجاه الدخان، حيث مشهد ألسنة اللهب المتدرجة ألوانها وصخب حركة الجموع الدرامية ورذاذ الماء المندفع من عربة المطافي، ويكتب عن الخريف وسُحُبه المُتشكِلة وزهوره وخروجهم في المرحلة الثانوية برفقة أستاذهم لرسم التلال المحيطة بمدينة القضارف، ليسأل:(أين ثورة التعليم من هذا؟!.. في جمعية الفنون بالثانوي تعلمنا الكثير).


من أعمال المؤلف

* من خلال تجربته الشخصية، متنقلا بين الحاضر والماضي، ينظر المؤلف لمعاناة التشكيلي في السودان، ليقول لم تكن كلية الفنون في السبيعنات تشبه أيا من المؤسسات التعليمية الأخرى، فهي كما سمتها إحدي قريباته يوم قبوله بها (كلية العلوم المختلفة) بما أتاحته من حرية لطلابها القادمين من مشارب مختلفة، مقارنا ذلك بما يحدث اليوم في الكلية. ويكتب عن قلة أو عدم وجود صالات عرض يؤبه لها، تتيح الفرصة لعرض أعمال التشكيليين، متحدثا عن تجربته الفاشلة مع صالة المركز الثقافي الفرنسي لعرض أعماله المتراكمة لديه منذ سنوات، ليقول بشروعهم، مجموعة من التشكيلين، في انشاء جمعية ثقافية حتي تقوم صالة عرض لتعفي من هذا الهوان. كما يخبر عن انجازهم لصالة عرض، طواها اليوم التغول والاهمال، بالمجلس القومي للثقافة بواسطة لجنة الفنون التشكيلية والمعمار، ابان عمله بالمجلس في الثمانينات. 


* لا يوفر المؤلف توجيه سهام نقده عن أحد، لا مؤسسات ثقافية ولا تنطيمات سياسية، اشتبكت مسيرة حياته ورؤاه بمسيرتها ورؤاها وتأثيرها في السودان، ليقول، وقد عمل مصمما بجريدتي الصحافة والأيام في السبيعنات والثمانينات من القرن الماضي، إنه شهد كيف يتم اعداد كادرها المطيع في زمن الشمولية. وعن اضمحلال دور الثقافة ومؤسستها يحكي تجارب من عمله بالمجلس القومي للثقافة. حتي "الجبهة الديمقراطية" التنظيم الطلابي الذي كان طبيعيا أن ينضم إليه، كما يقول، لم ينج من نقده ليسأل (هل كانت ديمقراطية حقاً؟). أما التنظيم الآخر "الاخوان المسلمون" الذي لم يكن خياره إذ نفر منهم منذ أن كان في المرحلة المتوسطة، كما يقول، وقد اتخذ بعض منسوبيهم من المدرسين من الحصص الدراسية ونشاط الطلاب ساحة للتبشير الايديولجي، ليقول، اليوم مع استلام المتأسلمين لمقاليد الحكم، صار ذلك التبشير غير الأخلاقي، منهجاً في كافة المدارس، يتم عبره إعداد النشء ليصيروا كوادراً للحركة الاسلامية.


* جاءت بالكتاب مستنسخات لقرابة الخمسين لوحة تشكيلية من أعمال المؤلف الجديدة، لكن الطباعة الرديئة لهذه الأعمال، وإزدحام الصفحة الواحدة، ذات القطع الصغير، بأكثر من عمل، يصل في بعضها أن توجد في الصفحة ثلاثة أعمال، أضاع فرصة أن يكون هذا الكتاب متعة مبهجة أكثر للنظر وللعقل، لكنه مع ذلك يُشكل إضافة مُعتبرة للمكتبة التشكيلية السودانية الفقيرة أصلا لهذه الكتب.




الأحد، 22 فبراير 2015

ربيع ثورة أكتوبر




اسم الكتاب: ربيع ثورة أكتوبر 1964م

المؤلف: د.عبد الله علي إبراهيم
الناشر: هيئة الخرطوم للصحافة والنشر
تاريخ النشر: 2013م









عرض: أسامة عباس  



(يُقال إنه كُتب على الذي يجهل تاريخه أن يعيده)

د.عبد الله على إبراهيم


* يريد هذا الكتاب دفع الافتراء عن ثورة اكتوبر 1964م التي حدثت في السودان، ناظراً في معرض هذه المُدافعة لانقلاب17 نوفمبر1958م باعتباره النطفة التي أخذت منها كل الطُغم اللاحقة قسماتها الدميمة، بدأً بسن الانقلاب لـقانون دفاع السودان 1958م المُروِّع والذي استنسخه كلٌ من، قانون أمن الدولة 1973م وقانون الأمن الوطني 1991م الحالي، وغير ذلك من القوانين والسياسات والأفعال. ويقول المؤلف إن فساد منهج المعارضة، جعل الكثيرين يغفرون لطغمة نوفمبر، إذ تبنت هذه المعارضة، بسبب تهافتها على السلطة، فكرة أن مايحدث من النظام الحالي ونظام نميري الأسبق جديداً وبدعةً، كذلك نظرت هذه المعارضة لثورة أكتوبر كمجرد أداة لتغيير النظم وليس كموضوع للوعي السياسي وحدث تاريخي يصعب فهمه بغير تحليل نظام نوفمبر. 


أكتوبر ليست صدفة


* القول بإن أكتوبر قامت صدفةً؛ واحد من الافتراءات والتخرصات التي يريد الكتاب دحضها، فذلك (من الظلم الصريح، أو الكسل المفرط) كما يكتب المؤلف، والصدفة نفسها بنت الضرورة، والثورة كانت لابد أن تقوم، في أكتوبر أو شهر آخر، والنظام كان قد شارف نهايته، بسبب جهد سياسي معلوم بُذل بقصد التغيير. ليقول إن أكتوبر بما تمخض عنها من حكومة شعبية جذرية، دفعت المعارضين من نادي الحاكمين في السودان لمناصبتها العداء منذ عامها الثاني، وإذ سموا أكتوبر صدفة (فلأنها ربما كانت أجمل من توقعاتهم وأذكى فوادا وأرحم بالمحكومين..)


* ويقدم مساهمة الحزب الشيوعي السوداني في ذلك التبشير والتحضير للثورة، ذاكراً إنها مساهمة يزعم لنفسه حضوراً فيها ومعرفةً بها وهي مما يليه، تاركاً الآخرين من القوى الأخرى، بعد الكف عن شُح النفس بنسبة الثورة إلى مجهول تاريخي، أن يشرحوا مساهمات قواهم المقدرة. وجاءت هذه المساهمة في خمسة محاور، هي: اقتراح الحزب الشيوعي على المعارضة والشعب خطة الإضراب السياسي في1961م، خروجه من جبهة أحزاب المعارضة، حفزه القوى الشعبية لاستعادة منابرها النقابية، دخول الحزب في انتخابات المجلس المركزي، ثم ترتيب وضعه الداخلي.


افتراءات وتخرصات


* قرنت الثقافة السلبية ذكرى اكتوبر بـ"التخريب" لا "التغيير"، فهي أفسدت الخدمة المدنية بالتطهير، وحلت الإدارة الأهلية، وأن شهيدها الأول أحمد طه القرشي مات صدفةً، وذلك ما يدحضه الكتاب بتأكيد، اشتراك القرشي في التظاهر ونسبته للحزب الشيوعي السوداني. وعن التطهير في الخدمة المدنية يدعو المؤلف عند النظر إلى الفساد أن ننظر إلى جهة المصالح والقوى التي يدعمها، وليس للطُهر الذي يُشاع عن هذا أو ذاك من الأفراد الحاكمين، ففي كنف نظام عبود نشأتْ طبقة استخدمت نفوذها في جهاز الدولة وعلاقاتها العالمية، لتتغول على حقوق الفقراء وتراكم رأسمالها. ثم يسأل هل كان التطهير للخدمة المدنية في أكتوبر جزافياً؟ وإجابته هي لا، عائداً لأعداد من صحافة تلك الأيام، ناقلاً أخباراً للجان تحقيق في الفساد لعدد من المؤسسات في الخرطوم وفي غيرها من المدن، كاتباً أن التطهير كان للخدمة المدنية وليس للخصوم بتلك الخدمة.


  * في سنة 1965م قدم الشفيع أحمد الشيخ إبان توليه وزارة شؤون الرئاسة في حكومة أكتوبر مذكرة لحل الإدارة الاهلية، ليُصار بسبب هذه المذكرة إلى لعن الثورة واليسار، رغم أن الحل تم في نظام نميري. ويُخبر المؤلف بتلك المذكرة التي جاءت في خمسة أبواب، منها مقدمة تاريخية عن الإدارة الأهلية قالت بغربتها عن واقع حياة الناس منذ الأتراك ثم إبان سنوات المستعمر الانجليزي الذي سخّرها لخدمته، وأُرفقت صحبة المذكرة شكاوى عديدة من مناطق مختلفة تُخبر بجورها. ثم ينظر المؤلف في نظام الإدارة الأهلية، قائلاً بأن التباكي عليه دائماً ما يصدر من صفوة الحكم والإداريين، الذين لامداخل لهم للمحكومين من أهل الريف سوى الإدارة الأهلية، مثلما فعل الإنجليز، وأنها وجهة نظرة واحدة تجاه الإدارة الأهلية، تلك التي يقدمها المتباكون، إذ لم يكتب بعد تاريخ الناقمين عليها من المواطنيين.


أكتوبر بعيون غربية


 * هي عيون الدكتور الأميركي كليف تومسون استاذ القانون ومدير معهد الدراسات الأفريقية بجامعة ويسكونسن- ماديسون، كان محاضراً بجامعة الخرطوم إبان اندلاع ثورة اكتوبر، كما يخبر المؤلف، ألَّف كتاباً عنها على ضوء معايشته لها ويومياته ومقابلاته لقرابة السبعين شخصاً من قادة أكتوبر ومن غيرهم. كما قام تومسون بتصميم كورس دراسي، انعقد في خريف 2006م، على ضوء الكتاب لطلابه في مادة القانون الأفريقي بجامعة ويسكونسن، فثورة أكتوبر في نظر تومسون (هي غاية الغايات لجامعة مطلبها من القانون تنزيل العدالة على الأرض).


السبت، 10 يناير 2015

الفيروس الليبرالي


اسم الكتاب: الفيروس الليبرالي
الحرب الدائمة وأمركة العالم
المؤلف: سمير أمين
المترجم: سعد الطويل
الناشر: دار الفارابي- بيروت
سنة النشر: 2004






عرض: أسامة عباس


* يبدأ سمير أمين كُتيبه هذا بحكاية يُقارب فيها الرؤية الليبرالية للمجتمع بمرض غامض، ظهر في أوروبا أول مرة في القرن السادس عشر، لكن تمت مقاومته هناك وتكونت الأجسام المضادة المناسبة، فانتقل عابرا الأطلنطي، ليعود مرة أخرى في نهاية القرن العشرين إلى أوروبا، قادما من الولايات المتحدة الأمريكية ذات المقاومة الضعيفة. ويُجمل أمين هذه الرؤية أو المرض بحسب مقاربته، في أربعة أفكار عامة هي: ارتباط الفاعلية الاجتماعية بالكفاءة الاقتصادية/ التوسع الكامل في السوق بقدر قليل من التقنين، مع التوسع في الديمقراطية دون الاهتمام بقضية الصراع بين المصالح الاجتماعية/  أمريكا هي نموذج البلد التى يجب أن يُحتذى/  لا بديل للنموذج الاقتصادوي الذي يُطابق بين السوق والديمقراطية وتكون فيه السياسة لخدمة الاقتصاد، وأن البديل الاشتراكي جُرب وفشل.

* تمثل الرأسمالية الخيالية و"مابعد الحداثة" خطابا الليبرالية الاقتصادي والايديولجي، بحسب المؤلف الذي يقول، إن الرأسمالية أو شبه نظرية الاقتصاد (المجرد) لا تقوم على مفهوم السوق وحسب، إنما على السلطة التي وراءه، لكن التحليلات السائدة للرأسمالية تترك الواقع الناتج عن الرأسمالية، والقائم على صراع الطبقات والسياسة والدولة ومنطق التراكم الراسمالي، لتنظر في نظام خيالي- يُسبَق عليه صفة العلم- يحكُمه السوق، ويُراد له الثبات باعتباره قانون لايمكن أن يتجاوزه البشر. أما مابعد الحداثة التي يدافع خطابها عن الخيار الليبرالي، فتعتمد على المُرقعات من خطاب الحداثة، الحداثة التي بدأت في أوروبا ولكنها لم تنجز أبداً لا في أوروبا ولا في أي مكان آخر، وانه خطاب يتغذي من التراجعات في خطاب التنوير، مُعتمِداً تقديم المديح للتنوع الموروث، دون تقديم النقد والجهد اللازم لتجاوز حدود العالمية البرجوازية، أو نقد محدودية خطاب التنوير.

* ويقول سمير أمين إن ماتُخَلِفه الليبرالية المعولمة القائمة هو الافقار الشديد لدول التخوم، ليعقب هذا الافقار، ذلك الخطاب السائد اليوم عن الحد من الفقر، وهو خطاب إحسان لايتصدى للسؤال عن الآليات الاقتصادية والاجتماعية التي تنتج الفقر. وفي دول المركز تسود ديمقراطية هشة، لاتستطيع السيطرة الاجتماعية على التحول الذي تحدثه الليبرالية. ليقول إن الديمقراطية هي إحدى الشروط الحتمية للتقدم، وهي مفهوم حديث مثلها مثل الحداثة التي نشأت مع الرأسمالية، ولم تصل لنهاية تتطورها الممكن، مُفضلا الحديث عن المقرطة بدلا عن الديمقراطية التي توحي بان هناك وصفة نهائية تعبر عنها. ويضيف إن التوسع في نيل الحقوق لم يتم لتطور الرأسمالية التلقائي، إنما بسبب النضال، عليه جَعَلَ الانخفاض في الانتقاد الاجتماعي، الديمقراطية فارغة من مضمونها الضار والمُهدد للسوق، لتصير إلى (ديمقراطية منخفضة المستوى).

*  ويتحدث في جذور الليبرالية عن الحداثة، قائلاً إنها نشأت مواكبة للرأسمالية خلال الانقطاع الذي حدث عن أساليب الحياة والإنتاج القائمة على اساس ميتافيزقي، لكن الحداثة، ظلت ملتبسة بشان قضية السلطة/الثروة، إذ قبِلت بالفصل الاعتباطي بين إدارة الاقتصاد (الملكية الخاصة/حرية المشروع/المنافسة) وبين إدارة الدولة بواسطة الديمقراطية، لتصبح الحداثة، بقبولها لهذا الفصل، فارغة من الممضون التحريري الذي تتدعيه، وتُقدم بالتالي وهي واقعة تحت قيود الرأسمالية، وعوداً لا تستطيع تحقيقها وتخلق آمالا محبطة. أما عن (الأيديلوجيا الأمريكية: الليبرالية بلا منازع) فالمؤلف يقارن بين الثقافة السياسية في كل من أوروبا وأمريكا، ليقول إن الثورة الفرنسية صنعت في أوروبا الأرض الصلبة للتفسيرات السياسية الحديثة، بينما في أمريكا لم يسمح التدين الذي يتميز به مجتمعها، بمستوى قوي من العلمانية، كما أن موجات الهجرات المتتالية جاءت مرتبطة بفكرة النجاح الفردي الذي يحبذه النموذح الأمريكي، ومنفصلة بالتالي عن النضال الجماعي في بلدان أولئك المهاجرون. ليقول إن الثورة الأمريكية التي يكيلون لها المديح، لم تكن سوى حرب استقلال محدودة بلا نتائج اجتماعية، لأن المستعمرون الأمريكان لم يكن يريدون إحداث أي تغيير في العلاقات الاقتصادية والاجتماعية، بل كان غرضهم الانفصال عن العرش الانجليزي، لذلك لايوجد حزب عمالي في الولايات المتحدة وأن النقابات لم تنتج في غياب هذا الحزب اية ايديولوجيا اشتراكية، بل ان هذه النقابات تشارك المجتمع في الايديلوجيا الليبرالية، في حين كان الشعب في فرنسا، حول كومونة باريس، يستعد للهجوم على السماء.


* ويقارن المؤلف كذلك بين الدولة في أوروبا وبين الدولة الأمريكية التي يراها مخصصة لخدمة الاقتصاد، أي من أجل رأس المال ولا تهتم بأية مصالح اجتماعية أخرى، خلافاً للدولة التي كانت في أوروبا، خاضعة للمصالح الاجتماعية، كما يتحدث عن هيمنة الولايات المتحدة المعتمدة على تفوقها الكاسح في السلاح، وليس لمزايا نظامها الاقتصادي، الذي يعيش عالة على شركائه في النظام العالمي، ليقول إن النضال ضد امبريالية الولايات المتحدة، هو معركة كل الشعوب.


* ويقترح سمير أمين في الفصل الأخير من كُتيبه عدداً من الفروض، للمناقشة، لإعادة بناء التضامن الدولي بين الشعوب، كدراسة واقع الامبرالية التي صارت جماعية، خلافاً للامبريالية ذات المراكز المتعددة التي كانت في السابق. والفرض الثاني أن الولايات المتحدة ليست صاحبة الأفضلية الاقتصادية الحاسمة وأن مشروع التحكم العسكري في الكوكب انما يجئ للتعويض عن النقص في اقتصادها. أما الفرض الرابع فيتمثل في ضرورة تحرر دول الجنوب من أوهام الليبرالية والبدء في أشكال تنمية معتمدة على الذات.


* ويجي الفرض الخامس في أن اختيار الولايات المتحدة للعسكرة الغرض منه أن يضرب في مقتل مصالح أوروبا واليابان، لذلك على أوروبا، وهذا هو الفرض السادس، أن تتخلص من الفيروس الليبرالي، ولن يتم ذلك إلا عبر شعوبها. أما السابع فهو بناء جبهة متماسكة للجنوب باشتراك شعوبه. والفرض الثامن هو قيام تضامن دولي بين شعوب أوربا وآسيا وأفريقيا وأمريكا. وأخير يختم سمير أمين فروضه التسعة، بضرورة مناقشة القضايا المتعلقة بالتنوع الثقافي، الذي يراه حقيقة واقعة لكنها مركبة وملتبسة، لأن التنوع الموروث من الماضي رغم شرعيته ليس بالضروة هو التنوع الذي سيحكم بناء المستقبل، اذ لايكفي الاعتراف بهذا التنوع، انما مايجب، هو البحث عنه، ليقول إن تقديم تصورات عالمية حقا، يشترك الجميع في إثرائها، هو الجدل الذي لايمكن إغفاله بعد اليوم.