* يخوض هذا الكتاب في دراسة اشكالية التحولات الاجتماعية في المناطق التي تسمى بالعشوائية بأطراف العاصمة المثلثة، متخذا مجتمع حي البركة، الذي كان يسمى قبل تخطيط المنطقة في عام ١٩٩٢ بكرتون كسلا، نموذجا لدراسته، حيث قام المؤلف/الباحث محمد بخيت بإيجار منزل لمدة عام في حي البركة، لانجاز هذا الكتاب الذي جاء بعنوان (بناء هوية واسلوب حياة في المناطق العشوائية متعددة الإعراق - دراسة حالة مجتمع حي البركة في الخرطوم، السودان) وصدر بدعم المؤسسة الألمانية للبحوث ببرلين في 2015 ، ويظهر بسبب تلك المعايشة لتفاصيل الحياة اليومية للذوات موضوع الدراسة، تمكنه من تقديم دراسة متميزة استعان فيها الكاتب بمنجزات ومناهج العلوم الانسانية وأيضا مقارنة حالة السودان، بحالة بلدان جنوب الكرة الأرضية والتي تشهد تجارب مماثلة. سار الباحث في اتجاه بناء مقاربة فكرية/ميدانية لمجتمع شهد تحولات اجتماعية كبيرة في العقود الأخيرة. يرى الكاتب أن نموذج حي البركة يمكن تعميمه على مجمل الأحياء “العشوائية” في العاصمة، وفي الكتاب يطرح الباحث الأسئلة التالية: ما الذي يحدث لمجموعة أقليات عرقية/دينية نزحت وهاجرت من مناطق نائية أفقرت مواردها واستقرت في منطقة عشوائية تقع على أطراف العاصمة الخرطوم؟ ما الذي يحدث لهم عندما يتعرضون لضغط الطبقة الوسطى المدينية لتبني اسلوب حياتها…وما هي بدائلهم؟ هل سيتبعون خطوات جيرانهم في أحياء الطبقة الوسطى ، أم هل سيبحثون عن اسلوب حياة وهوية جديدة ــ ولو كان ذلك ، كيف تمكنوا من خلقها؟
عرض: أحمد آدم
* يتألف الكتاب من ثمانية فصول، في المقدمة يتحدث الكاتب عن تاريخ نشأة السكن العشوائي في خرطوم ما بعد الأستقلال. ويقول إن الخرطوم شهدت موجات هجرة من مختلف أنحاء السودان وذلك لتوفر فرص العمل، وتركز الخدمات بها. الموجة الأولى من المهاجرين وصلت الخرطوم بين عامي ١٩٦٠ و١٩٨٠ ومعظمهم كانوا شماليين، مع نسبة بسيطة من الجنوب والغرب. معظم الشماليين كانوا متعلمين وقد اختاروا أن يعيشوا في المناطق الطرفية ، أو في قرى بالقرب من حدود العاصمة. المهاجرين من الجنوب والغرب استقروا في مناطق غير مخططة على حافة المناطق الصناعية. قامت الحكومة بعدها باجبارهم على مغادرة هذه المناطق وتخطيط سكن لهم (درجة - رابعة) في ضواحي الخرطوم ، وكان هذا السكن نواة لما يعرف حاليا بمنطقة الوحدة الوطنية.
الموجة الثانية من المهاجرين وصلت الخرطوم بين عامي ١٩٨٠ و ٢٠٠٠ ، هذه المجموعة نزحت بسبب الحرب الأهلية في الجنوب والصراعات العرقية والجفاف والتصحر في دارفور. يوضح الكاتب أن حوالي مليوني شخص نزحوا من مناطقهم الأصلية واستقروا في الخرطوم. منهم من وجد أراضي خالية داخل العاصمة ، ومنهم من فضل أن يعيش في المناطق الطرفية ، بالقرب من المناطق التي كانت عشوائية في السابق والتي قامت الحكومة بتخطيطها لاحقا، ولكن الغالبية منهم استقرت في مناطق عشوائية.
* تزامنت النواة الأولى للأحياء العشوائية في الخرطوم مع تأسيس المنطقة الصناعية بالخرطوم بحري في ١٩٦٢حيث قام حوالي مائة شخص من عمالها ببناء رواكيب بالقرب منها، ثم تبعتهم مجموعات أخرى، لكن سكان الأحياء المجاورة للمنطقة الصناعية تضايقوا من وجود هذه الرواكيب وضغطوا الحكومة المحلية لإجبار سكان الأحياء العشوائية على المغادرة. وهذا ما قامت به الحكومة لاحقا حيث أجبرتهم في عام ١٩٧١ على مغادرة المنطقة التي استقروا بها والتحرك الى الأطراف الجنوبية الشرقية من المنطقة الصناعية، إذ قامت الحكومة بتخطيط مربعات، في منطقة قريبة من قرية الحاج يوسف، بيد أن معظمهم لم يكونوا قادرين على تأمين قطعة أرض فيها، فقاموا بخلق منطقة عشوائية جديدة، خلف المنطقة المخططة حديثا، فبدأ توافد الناس من الغرب والجنوب، الى جانب كل الناس المجبرين على مغادرة مناطقهم في العاصمة. هذه الزيادة المضطردة في عدد سكان المنطقة أجبرت الحكومة على تخطيط مزيد من المناطق التي كانت تعتبرها عشوائية. وذلك بإضافة أربعة مربعات أخري في عام ١٩٧٤. وأيضا مربعات جديدة في عام ١٩٨٠. اخر اضافة كانت في عام ١٩٩٢ عندما قررت الحكومة اضافة مربعات جديدة سمتها (البركة). وهو الحي موضوع الدراسة.
* كانت سياسات الحكومة تجاه المناطق العشوائية، كما يري الباحث، تتحرك وفق وعي الطبقة الوسطي المديني ورغبتها في فرض هوية اسلامية - عربية عليهم، مما أدى لنشوب المواجهة بين سكان الأحياء العشوائية من جهة والحكومة و سكان الأحياء العاصمية المخططة من جهة أخري، ولم تكن مواجهة من اتجاه واحد، خضع فيها سكان العشوائيات لسياسات الحكومة، ولكنها كانت مواجهة معقدة جدا استعان فيها سكان الأحياء العشوائية بخبرتهم ومعرفتهم التي أتوا بها من مناطقهم الأصلية ليستطيعوا تنظيم أنفسهم على أطراف العاصمة. على سبيل المثال مواد البناء التي يستخدمونها وطريقة البناء هي الطريقة التي أتوا بها من مناطقهم الأصلية وهي طريقة سريعة وقليلة التكلفة مكنتهم من مواجهة سياسات الحكومة المستمرة في تدمير مساكنهم وترحيلهم من مكان لاخر.
يقول الكاتب أنه يجب أن نضع في الاعتبار طبيعة التحديات التي واجهت سكان العشوائيات اذا أردنا أن نفهم كيف أن حياتهم وهويتهم قد تغيرت في المكان الجديد. هذه التحديات تمثلت في محاولة التكيف مع البيئة الجديدة، خصوصا أن الغالبية العظمى من سكان المناطق العشوائية أتوا من مناطق مثل فيها الرعي والزراعة مصدر رزقهم الرئيسي.
* كان البحث عن عمل يأتي في قائمة أولويات سكان المناطق العشوائية بعد تأمين السكن، مما يعني تفاوضهم مع الفضاء المديني، بأشكاله التنظيمية المختلفة و الذي يسيطر عليه أخرون يملكون الموارد المادية والرمزية، فلا يبقى أمامهم سوى العمل في الشرطة أو الجيش، وهي غالبا ما تكون في الرتب السفلى، زائدا العمل في المجال غير الرسمي، حيث نجد النساء يعملن في بيع الشاي أو الأطعمة أو المشروبات الكحولية ، والأخيرة غير مضمونة العواقب نسبة لأن الشرطة غالبا ما تقوم بحملات تفتيش للأماكن التي تتم فيها صناعة الكحول، إضافة لفرص أخرى تكون من نصيب الشباب الأصغر سنا، تتمثل في استخدام الركشة كوسيلة مواصلات..
* في الفصل الثالث يتناول الكاتب البنية الاجتماعية لمجتمع البركة، قائلا بإنه قام بعمل استبيان وسط سكان الحي عن الطريقة التي يعرفون بها أنفسهم والاخرين الذين يشاركونهم نفس المكان، كان هناك اجماع وسط سكان حي البركة أنهم عادة ما يستخدمون هويتهم العرقية كأساس للتصنيف، فكثير من الناس تتم مناداتهم بأسماء مجموعاتهم العرقية (فوراوي،نوباوي،دينكاوي). لكن الكاتب يوضح أنه عندما زادت خبرته في الفضاء الاجتماعي المدروس وجد أن عددا كبيرا من سكان الحي رغم تحديد هويتهم على أساس العرق، لكنهم يمارسون حياة يومية ولهم قيم وتصورات مختلفة تماما عن حياة المجموعة العرقية التي ينتمون لها، وعادة ما تكون القواسم المشتركة قليلة جدا بين الأفراد الذين ينتمون لمجموعة عرقية واحدة. ويذهب الكاتب الي أن العرق في الأحياء العشوائية أصبح له معنى مختلف عن معناه في المناطق التي حضر منها النازحون، على سبيل المثال ينضوي تحت مظلة الفور مجموعات عرقية مختلفة من غرب السودان، قد تختلف هذه المجموعات تماما عن الفور في لغتها وطريقة حياتها ولكن حتى توسع مجموعة قبائل غرب السودان من مواردها في المنطقة يقوموا بتعريف أنفسهم كفور. يوضح الباحث أن مصطلح (اسلوب الحياة) له القدرة علي عكس الحياة الاجتماعية داخل مجتمع البركة بشكل عملي ونظري. حيث يمكن التفريق بين الهوية المنطوقة، والتي يستخدمها الناس كعلامة أولي، والهوية المعاشة التي يمكن من خلالها رؤية علامات اجتماعية أخرى على مستوى الممارسات الاجتماعية للأفراد والجماعات. في هذا الفصل يطور الكاتب مثلث تخطيطي يمثل مجموعة (أساليب الحياة) المختلفة في حي البركة والتداخل بينها، يقترح الباحث أن أساليب حياة سكان حي البركة يمكن تقسيمها الى ثلاث مجموعات، المجموعة الأولي سماها الكاتب (أسلوب حياة الجيل الأول) ، المجموعة الثانية (أسلوب حياة المتعلمين) ، والمجموعة الثالثة (أسلوب (حياة الجيل الثاني). حيث يمثل كل رأس من رؤؤس المثلث أسلوب حياة محدد، مثل الكاتب لأسلوب حياة الجيل الأول بالزعامات الدينية والقبلية، والجيل الذي ينتهج أسلوب المتعلمين بالمعلمين والتجار، والجيل الثاني بالأطفال المشردين والعصابات التي تسمى عصابات النيقرز.
* يأتي الفصل الرابع للحديث عن اسلوب حياة الجيل الأول في حي البركة، قائلا بإنه يحاول بقدر الامكان أن يعيش حياة تشبه حياة أجدادهم، فحياتهم ونشاطاتهم الاجتماعية تتمحور حول التداخل مع أقرانهم من نفس المكان، الاصول العرقية والمعتقدات، وهم يفضلون الحديث بلغاتهم بدل الحديث باللغة العربية في كل سانحة ممكنة. كما يحافظ هذا الجيل على علاقات قوية بأرض المولد، سواء بالسفر المتواصل، عندما تسمح الظروف، أو باستضافة من يحضر من الأقارب الى الخرطوم.
* في الفصل الخامس يتحدث فيه الكاتب عن مجموعة ثانية تنتهج (اسلوب حياة المتعلمين) وهي خليط من الجيل الأول والثاني، إذ تشترك في أنها تلقت تعليما مكنها من من الحصول على وظائف مرموقة وبالتالي موارد اقتصادية واجتماعية، كما أنها متأثرة بالحياة في أرجاء العاصمة المثلثة خارج مجتمع البركة، وهي تحاول أن تنسخ اسلوب حياة الطبقة الوسطى العاصمية وتعيد انتاجه في حي البركة، ليس فقط على مستوى جلب الخدمات المدينية، التعليم، أو الموارد لمجتمع البركة، ولكن أيضا ثقافة الطبقة الوسطى الشمالية، كالحديث باللغة العربية بلهجة العاصميين، وأيضا التدين على طريقة العاصميين. وهذه الطبقة المتعلمة تعتقد أن طريقة الحياة التقليدية في مناطقهم الأصلية هي طريقة متخلفة، فنعطي بالتالي أهمية كبيرة للتعليم الرسمي لأنها رأت معاناة الجيل الأول مع المؤسسات الحكومية وأيضا مع أحياء العاصمة الأخرى منذ وصولهم للعاصمة، كما ترى هذه المجموعة ضرورة أن يكونوا جزءا من معادلة السلطة في حي البركة، كقادة وصناع قرار، سواء في اللجان الشعبية المحلية ، أو مجالس ادارات المدارس وغيره.
* يخصص الكاتب الفصل السادس للمجموعة الثالثة وهي الأجيال الأصغر سنا والتي شيدت نمط حياة مختلف، إذ ليس له روابط قوية بأجزاء العاصمة الأخرى، وقد سمحت لهم التكنولوجيا الحديثة ووسائط الاتصالات بالاطلالة على ثقافة الشباب على مستوى العالم ، فتأثر هذا الجيل بالراب، الريقي ، الموسيقى الكنغولية، الافلام الأمريكية والهندية، والمصارعة الأمريكية. كذلك أعاد هذا الجيل اختراع نفسه محليا، على سبيل المثال، في شكل موسيقاهم المحلية المتأثرة بالراب في الاسلوب وفي طريقة حياتهم المتأثرة بالهيب هوب في اللبس والسلوك. وقد نما اسلوب حياتهم في فضاءات ابتدعها واحتكرها الشباب فقط. حيث يلتقون في ، المحطة، مقهى الشيشة، والحفلات، وهي اماكن كما يخبرنا الباحث، مهمة جدا لفهم وتحليل الطريقة التي شيد بها هذا الجيل نمط حياته المختلفة ، حيث يتلاقون ويتعلمون فيها من بعضهم البعض، وأنها هذه المواقع أيضا دليل على دينامية وجودهم كجزء من حي البركة، وفي نفس الوقت قدرتهم على الحفاظ على طريقة حياة تميزهم عن الاخرين.
* وفي الفصل السابع يتحدث الكاتب عن طريقة تبني سكان حي البركة لمجموعة من المؤسسات والممارسات والقيم من اصول مختلفة واعادة خلقها محليا، لتصبح ملكهم، والتي يبدأ تبنيها عادة عند مجموعة ذات نمط حياة محدد وتنتقل تدريجيا للمجموعات الأخرى، قد يستغرق الانتقال زمن طويل جدا، وقد لا ينجح الانتقال أحيانا، فتبقى الممارسة عند مجموعة محددة دون أن تتبناها باقي المجموعات، فعلى سبيل المثال ثقافة الهيب هوب تعتبر خاصة بالشباب فقط.
عملية تبني قيم ومؤسسات جديدة هي عملية متحركة باستمرار، وكمثال لذلك الكيفية التي تحول فيها صراع النوبة ، الذي ادخل الخرطوم حوالي العام ١٩٧٥ في منطقة حمد النيل، ليتحول من ممارسة داخل مجموعة عرقية محددة (النوبة) للمحافظة على عاداتهم وتقاليدهم التي أتوا بها، لمكان يجذب مجموعات مختلفة. حيث أن الصراع جزء من طقوس ما بعد الحصاد، ، إذ كان يتم وسط أبناء النوبة على نفس نهجه في مناطقهم الاصلية، بتقسيم المتصارعين علي أساس المجموعات العرقية في جبال النوبة، ثم اكتسب الصراع شعبية كبيرة، بعد انتقاله من منطقة حمد النيل في أم درمان لمنطقة الوحدة في الحاج يوسف، ليقوم منظموه في التسعينات ببناء خيمة خاصة له، وفرض رسوم على الجمهور، وبعد نجاح الفكرة قرر القائمون تأسيس رابطة للمصارعة وتقسيم المتصارعون على أساس الأندية وليس على أساس العرق، وأصبح المصارع يلعب من أجل المال وارضاء جمهور فريقه بدلا من اللعب من أجل مجموعته العرقية كما كان في السابق، ليصبح الصراع ، ليس فقط، أكثر الرياضات شعبية في الأحياء العشوائية، ولكن أيضا رياضة قومية تمثل كل القطر.
* الفصل الأخير يخصصه الكاتب للحديث عن بناء واعادة بناء الهوية ونمط الحياة موضحا أن سكان حي البركة في تفاعلهم اليومي مع البيئة من حولهم يلتقون بهويات مختلفة. قد تكون هذه الهويات تنتمي لمناطقهم الأصلية، أو تنتمي للأحياء العاصمية المجاورة، أو من العالم الخارجي عن طريق التكنولوجيا ووسائل الاتصال الحديثة. فسكان البركة كما يخبرنا الكاتب يتحركون بحرية بين هذه الخيارات المطروحة. وذلك بتعديل عناصر ما من هوية معينة وضمها لهويتهم. وفي نهاية المطاف يخترعون هوية جديدة (من خلال نمط حياتهم المعاشة) تتأسس على كل الخيارات المختلفة المتاحة لهم. فاختراع الهوية الاجتماعية لحي البركة وللأحياء الشعبية بصفة عامة هو نتيجة تفاعل مستمر بين مجتمعهم المحلي والعوالم الخارجية، لتكون النتيجة النهائية هي نوع من هوية اجتماعية متفردة ومختلفة عن كل العوالم التي ساهمت في وجود الأحياء الشعبية. ويختم الباحث بالقول أن عملية توطين هذه العناصر في الأحياء الشعبية هي مثال مهم عن ما يحدث في مختلف المجتمعات في السودان أو الجزء الجنوبي من الكرة الأرضية بشكل عام، وفقا لذلك يقول أن الهوية الاجتماعية للسودان حاليا، لا يمكن اختزالها في الثنائية التبسيطية (عرب مقابل أفارقة) ولكنها هوية في حالة خلق مستمر.
---------------------------
ahmedadam@planetmail.com