الطابعون المركز الطباعي الخرطوم
تاريخ النشر: 1988
عرض: هشام مكي حنفي
* مذكرات حسن عطية بقلمه؛ كما سماها صاحبها تعكس سيرة فنان ومدينة ومجتمع بل وحياة السودانيين خلال عقود عدة من القرن العشرين، و هو على صغر حجمه و رغم أن كاتبه قدمه باعتباره مذكرات شخصية، إلا أنه وثيقة جيدة توثق للحياة السودانية من منظور متفرد ولزمن قلت الكتابة عنه بأقلام سودانية، فالأستاذ حسن عطية كما يكتب عن نفسه هو ابن مدينة الخرطوم التي كانت تقع ما بين السكة حديد و النهرين، وقد ولد فيها في العام 1921، قدم الكتاب وصفاً جغرافياً و اجتماعياً فريداً للمدينة في ذاك الوقت حيث تحدث عن حدودها و تقسيمها الجغرافي لأربعة أقسام على رأس كلٍ منها عمدة بالإضافة للقسم الأوربي حيث المباني الإدارية و سكن الجاليات الأوربية. لغة الكتاب لطيفة غير متكلفة، تشبه الأنس السوداني في كثير من المواقع كما تتخللها أحياناً بعض التعابير الدارجة من العربية السودانية.
* تتناول المذكرات جوانب من الحياة الاجتماعية و الثقافية و جغرافيا مدينة الخرطوم في ذلك العهد، ففي الباب الثاني من الكتاب يصف الأستاذ حسن عطية كيف كان يتم الاحتفال بالمولد النبوي و يعطي وصفاً دقيقاً لنوع من المهرجانات الشعبية اختفى من حياتنا، كذلك يتطرق للتنظيم الإداري فيصف تقسيم المدينة الإداري و أسماء العمد الذين كان كل منهم يختص بقسم من المدينة و يصف بدقة المتاجر والمحلات العامة من جزارات و محلات خضار ومطاعم و المقهى الافرنجي الذي يتوسط البلد (لورد بايرون) و المقاهي البلدية ثم ينتقل إلى الإندايات أو الأنادي في الخرطوم و يعطي ملمحاً عن صفتها و طريقة إدارتها و كيف أنها كانت تتوسط الأحياء حيث لكل حي إندايته و يقول في ذلك "و الإنداية منقولة من شبيهتها محلات (البب) بانجلترا أي الأندية الليلية التي تنتشر هناك في كل حي"، و هذا يعكس نوع و مدى ثقافته و معارفه العامة التي تكونت من السفر و الاختلاط بالناس بالإضافة للقدر الذي تلقاه من التعليم.
* خلال عقدي الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي طرأ تطور اقتصادي- اجتماعي على مختلف مجالات الحياة في السودان شمل بالطبع ممارسة الغناء و الموسيقى، فمع نشأة الإذاعة (1940) و دخول عدد من أبناء القطاع الحديث إلى هذا الحقل بما لهم من قدرٍ من تعليم و ثقافة مدينية تحول هذا النشاط من محض ممارسة مجتمعية عفوية إلى مهنة لها أصول و قواعد و انعكس هذا التطور على المغنيين و الموسيقيين و على الفن الغنائي بأكمله.
* يذكر الأستاذ حسن عطية كيف أنه تردد عندما عرض عليه أن يغني في الإذاعة أول مرة لتخوفه من رفض أهله و يشرح ذلك بقوله "فقد كانت نظرة المجتمع للمغنيين ظالمة وكانوا يسمونهم (صعاليك) ويوضح كيف أن المغنيين قبلهم في بادئ الأمر كانوا يذهبون إلى بيوت المناسبات يغنون فيها و يبقون طوال أيام المناسبة مقابل الضيافة و ما يكرمهم به أهل الدار، ثم كيف أن الانتقال الذي حدث فيما بعد عندما بدأت الإذاعة بالتعاقد مع المغنيين لتقديم وصلات غنائية مقابل أجر جعل لهم وضع محترم و عمل بمقابل.
يقدم الكتاب توثيق مهم و نقل حي للحياة الاجتماعية في العاصمة و عديد من مدن السودان في الوقت الذي يغطيه و يحكي عن الحياة زمن الحرب العالمية الثانية و أثرها على حياة الناس و يذكر كيف أن الحرب كانت السبب في إنشاء الإذاعة لأغراض دعائية لصالح الحلفاء و أن إدخال الغناء فيها كفواصل بين فقرات الأخبار كان جزء من هذه الدعاية ثم صار أمراً أصيلاً قدم خدمة قيمة لفن الغناء و للموسيقى في السودان.
* من اللحظات المهمة في الكتاب عندما يتناول الأستاذ حسن عطية اللحظة المفصلية في حياته المهنية عندما كان عليه الاختيار بين الاستمرار في الوظيفة ذات الراتب الجيد و المكانة الاجتماعية المرموقة في الحقل الصحي أو التفرغ للغناء بالتزامات التسجيل في الإذاعة و الرحلات الفنية و كيف أنه قرر في النهاية التضحية بوظيفته لأجل احتراف الغناء مما يوضح تعامله الجاد مع الغناء و كونه أحد الرواد الذين صنعوا لهذه المهنة مكانة محترمة.
* تحدث المؤلف كذلك باستفاضة عن مشاركاته الفنية و زملائه أيام الحرب العالمية الثانية في أريتريا و ليبيا للترفيه عن الجنود السودانيين المشاركين في الحرب ثم زيارته اللاحقة لأريتيريا و بقائه لعشرين يوماً في أسمرا و لقائه الفنان الرائد سرور في هذه الرحلة و في هذا يشيد بالدور الكبير للفنان سرور في نشر الأغنية السودانية هناك. يتحدث الكتاب كذلك عن مشاركات الفنانين في الرحلات الداخلية في مدن السودان المختلفة حيث تطرق لزيارة طريفة مع الفنان الكبير إبراهيم الكاشف و آخرين إلى مدينة لفاشر.
* في الختام نقول أن كتاب (مذكرات حسن عطية) مثَّل جزء أول من هذه المذكرات كما أشار هو في نهايته و أعلن أنه سيتبعه بجزء آخر لكن لا نعلم إن كان هناك جزء آخر قد صدر أم لا، لكن في كل الأحوال فإن هذا الكتاب مهم للمهتمين بتاريخ الخرطوم و بتاريخ الغناء و الموسيقى و بسيرة الفنان العظيم حسن عطية فوق أنه ممتع.