اسم الكتاب: المقاومة الداخلية لحركة المهدية
(1881-1898)
المؤلف: د. محمد محجوب مالك
الناشر: دار الجيل-بيروت
تاريخ النشر: 1987
عرض د. هشام مكي حنفي
* بدأت فكرة هذا الكتاب عند المؤلف، كما يقول، عندما كان يعمل في ترتيب دفاتر مراسلات المهدية خلال فترة عمل بها في دار الوثائق المركزية في الخرطوم، وباطلاعه على مراسلات المهدية بدأ يطلع على بعض حقائق تلك الفترة من داخلها ومن خلال ما كتبه صناع أحداثها بأيديهم، بلغت هذه المراسلات 6224 وثيقة صادرة عن المهدي والخليفة، وقد وفرت له فرصة الوقوف على الأحداث ومسبباتها من الداخل بعكس ما كان في مؤلفات الأجانب الذين كتبوا عن المهدية من أوروبيين وغيرهم، إذ فسروا كثير من الأحداث من وجهات نظرهم التي كانت في كثير من الأحيان بعيدة عن الحقيقة، وهذا ما شكل عنده أحد دوافع كتابة هذا البحث، وبالإضافة لمراسلات المهدية السابق ذكرها، اطلع المؤلف كذلك، على وثائق السودان بأرشيف مجلس الوزراء المصري، وما فيها من مكاتبات ذات صلة مباشرة بهذا الموضوع أو كتبت في نفس الفترة ولها صلة بعموم الأحداث بالإضافة لمؤلفات من كتبوا عن المهدية كما أسلفنا.
* يتناول الكتاب حسب ما يتضح من العنوان حركات المقاومة الداخلية التي واجهت الدولة المهدية والطريقة التي تعاملت بها قيادة الحركة والدولة ممثلة في المهدي و الخليفة مع هذه الحركات، كما يستعرض بعض الردود العنيفة تجاه من ظن فيهم المهدي أو خليفته احتمال المناوأة أو من كان هناك خوف من احتمال تنامي قوتهم بما قد يجعلهم مراكز قوة في أي وقت من الأوقات، كما يتطرق للنزاعات و الصراعات مع الحركة المهدية التي نشأت خلال حياة المهدي أو بعدها، و ما بدر من مقاومة أو مجرد وجهات نظر مختلفة لبعض الأفراد أو الجماعات و الطريقة التي وُوجهت بها هذه المقاومة و الآراء و ما اتسمت به من عنف مفرط.
* يبين الكاتب كذلك كيف أن التناقضات التي برزت بين ما يقوله المهدي و ما يحدث في الواقع أدت لحدوث بعض التساؤلات والتشكك مما اعتبره المهدي و الخليفة معارضة، ومن ذلك ما حدث في بدايات الصراع مع الحكومة في معارك كردفان، حين كان المهدي قد منع استخدام الأسلحة النارية بدعوى أنها سلاح الكفار وقصر على أنصاره القتال بالسيوف، لكن عندما سقط 10000 من رجاله في يوم واحد، في معركة الجمعة التي حاول فيها اقتحام الأبيض عاد وسمح باستخدام السلاح الناري فتشكك البعض في مهديته، و لما بلغه هذا أشار إليهم في أحد منشوراته واعتبر هجرتهم مردودة وطالبهم بالتوبة و تصحيح إيمانهم وقد كانت هذه من بواكير المنازعات على الأساس النظري للفكرة و التي قُمعت لاحقاً بقسوة و شدة أكبر.
تناول الكتاب سيرة الشيخ المنا اسماعيل شيخ قبائل الجمع الذي ناصر المهدي منذ وقت مبكر للدعوة وما كان له من فضل في انتصارات المهدية الحاسمة في التيارة و بارا و الأبيض، حيث قاد جيش ضخم أكبر من الجيش الذي كان مع المهدي، تكون من قبائل الجمع و حلف من عديد من قبائل شرق كردفان والنيل الأبيض، وهو ما أثار هواجس الخليفة و جعله يتخوف من أن ينشأ لدى شيخ المنّا طموح في القيادة أو تولى مكانة متقدمة كنائب للمهدي فاستفزه وناوشه ولما لم يجد استجابة خاف مما قد يبطنه فاغتاله في خلوته بعد رجوعه للتيارة مع كل رجال أسرته.
يطرح المؤلف عدد من التساؤلات المفتاحية التي تستبطن الإجابة على معظم التعقيدات والتناقضات التي أدت لنشؤ المقاومة، بل والتي أدت في نهاية الأمر لسقوط الدولة نفسها، يتساءل د. محمد محجوب عن لماذا نجحت الثورة في السودان دون بقية البلدان الخاضعة للسلطة العثمانية؟ و عن سبب هجرة المهدي إلى جبل قدير وكردفان وسر النجاح السريع و الكبير الذي حققه هناك؟ و من ضمن أسئلة الكتاب المهمة التي أجاب عليها المؤلف خلال بحثه تساؤله عن "هل كان نجاح الثورة المهدية راجعاً إلى استراتيجية المكان ومرتكزات الحركة الأساسية المتمثلة في القيادة الشخصية للمهدي .... أم إلى القبائل البدوية التي حاربت للتخلص من دفع الضرائب و الاستمتاع بالغزوات الحربية وامتلاك الغنائم؟ أم كان راجعاً للجلابة... الذين تضرروا من منع تجارة الرقيق". أجاب المؤلف على كل هذه التساؤلات وغيرها باستفاضة في عمل تاريخي محكم وممتع يستند على تحليل الوثائق و شواهد الحال وروايات بعض كبار السن الذين زارهم مستقصياً و باحثاً عن مزيد من المعلومات و لمقارنة صحة ما تجمع لديه من مصادر أخرى.
الكتاب مهم و جدير بالقراءة و مما يزيده أهمية مساهمته غير المسبوقة في تناول تناقضات المهدية على مستوى الدعوة والحركة والدولة تلك التناقضات التي حملتها معها وغذَتها لتنفجر آخر الأمر و تتسبب في انهيارها، كما تتمثل أهمية الكتاب في أن المؤلف اهتم بتدوين جانب مهم من تاريخ المهدية أُهمل عمداً أو لسوء تقدير و في كلا الحالتين هو إهمال ضار بالتاريخ الذي لا ينبغي أن يكتب بطريقة انتقائية. و من الإضافات المهمة تصحيحه لبعض التاريخ الرسمي فالكتاب يخبرنا بالوثائق عن كثير جداً من القبائل السودانية التي ظلت في نزاع و قتال مع المهدية حتى آخر لحظة خلافاً للاعتقاد السائد بأن كل أو أغلب قبائل السودان قد أيدت المهدية وبقيت على هذا التأييد حتى النهاية. معظم من كتبوا عن المهدية انطلقوا إما من إعجاب مفرط جعلهم يجملون الوقائع ويتغاضون عن كثير من مثالبها أو من بغض قادهم لشيطنتها و عدم رؤية أي جانب إيجابي فيها، و هنا بالضبط تقع مأثرة د. محمد محجوب مالك و كتابه هذا الذي لم يجد ما يستحقه من التناول.