الجمعة، 11 مايو 2018

الجريمة والعقاب


اسم الرواية: الجريمة والعقاب
المؤلف: دوستويفسكي
المترجم: حسن محمود
الناشر: آفاق للنشر والتوزيع-القاهرة
تاريخ النشر: 2016




عرض: محمد عمر*

* في الجريمة والعقاب التساؤل عن حق الكفاءة الفردية امام المصير الاجتماعي هو أحد التساؤلات المتعددة للرواية، فهناك أولا الشخصية الروائية راسكولنيكوف الطالب عدو المجتمع ذو الأصول الوضيعة، والذي وجد فرصة لان يشعر بتفوقه الذهني الذي يراه انه حق الفرد في مقابل الحق الاجتماعي، لأنه ليس نتاج لتطور اجتماعي ولكنه طفرة فردية تجعله قادر على صنع قدره بالقفز عاليا من أسفل السلم الاجتماعي والوصول لأعلاه. هنا تتشكل ذهنية الجريمة الكاملة في وعي راسكولنيكوف والتي يكتبها أولا في شكل مقال صحفي ثم يطورها لكي تصبح فعل حقيقي عند قتله للمرابية العجوز القملة التي تمتص دم الناس ولا فائدة ترجي منها حسب تعبيره. لكن راسكولنيكوف في موقع اخر من الرواية يتراجع امام المواضعة الأخلاقية الاجتماعية في حالة صونيا البغي صغيرة السن والتي تمارس الدعارة لأجل ان تؤمن الطعام لإخوتها الصغار، يهينها راسكولنيكوف ويتهمها بالوضاعة والاكل من ثديها، لكن صونيا التي تقع في حبه تبرر نفسها امامه بانها لا تفعل ذلك الا مضطرة لكي تحافظ على حياتها وحياة اخوتها، في الأخير تعتزل صونيا طريقها القديم وتنذر نفسها لخدمة المسيح والتي تراها في النفي الاختياري للعيش قرب راسكولنيكوف في سجنه الثلجي البعيد.

* يظهر سؤال الكفاءة الاجتماعية مرة اخري لكن بشكل حق الوراثة كما في شخصية سفدريجايلوف، هنا فان الغني صاحب النبالة بالوراثة والذي يريد ان يمتلك أي شيء تتمناه رغباته الذاتية يمثل موقع عدو للمجتمع الذي ليس لديه القدرة على مسائلته او التأثير عليه، هنا فان سفدريجايلوف المدعوم بسطوة الحق الوراثي التقليدي يستطيع ان يفعل مباشرة بدون ان يفكر حول شرعية رغباته، لكنه ينهزم امام دونيا اخت راسكولينكوف والتي تمثل المقابل الاجتماعي لحق التفوق الفردي المطلق عند القرينين. فدونيا تدخل اولا في جدال حامي مع اخيها راسكولنيكوف والذي يتهمها بان تهين نفسها بالزواج من رجل غني لأجل انقاذ وضع اسرتها الفقير، لكن دونيا تجادل بان اختيارها للزواج من رجل غني ليس ضد ارادتها، بل ارادتها هي استغلال فرصتها لأجل تحسين شرطها وشرط اسرتها الاجتماعي، بالطرق الشرعية وعبر الاقتران برجل غني. يتكرر مشهد الجدل الحامي لدونيا مع القرين الاخر سبيدرجالوف والذي يقوم بالإغلاق عليها داخل غرفته بشرطين: الاول ان تخضع لرغباته، والثاني ان تقتله باستعمال مسدس وضعه امامها، في الحالتين يريد من دونيا اثبات ان الشرط الفردي لتحقيق الرغبة هو أمكان الحياة الوحيد، لكن دونيا تظهر مرة اخري كمتكلم اجتماعي للعصر الجديد، فهي ترفض كلا الخيارين التي يعرضهما عليها، فهي حرة في ان تمنح نفسها لمن تشاء ولن تخضع لمن لا ترغب به، كما انها لا تملك الحق في قتله، بعد مجادلة عنيفة ومثيرة ينهزم سبيدرجالوف امام إصرار دونيا ويتركها تذهب لحال سبيلها. في القرينين اكتملت الجريمة والتي حدثت بسبب ممارسة حق التفوق الفردي على الاجتماعي، لكن ما العقاب المناسب لكلا منهما؟

* يختلف مصير العقاب للقرينين راسكولنيكوف وسفدريجايلوف. ففي حين ان راسكولنيكوف تهزمه صورة الفعل التي يمثلها حالة المحقق بيتروفيتش الذي يكشف نواياه تنفيذ جريمة مكتملة بتحليل مقاله عن الجريمة الكاملة، والذي بخبرته النفسية المتفوقة ولكن المندمجة في الدور الاجتماعي يترك راسكولنيكوف يقرر بنفسه كيفية مواجهه صورة الفعل الاجرامي، هنا فان راسكولنيكوف تخضعه قوة صورة الفعل ومحاسبة الجانب الأخلاقي للوعي. وكما يتنبأ المحقق بيتروفيتش فان راسكولنيكوف سيطلب ببساطة ان يتم إنزال العقاب عليه، فمقابل الجريمة يوجد العقاب العادل الذي هو الشرط الوحيد لاستمرار الحياة. لكن مصير العقاب لسفدريجايلوف صاحب الامتياز الذي يمثل سطوة العالم القديم يختلف، فالامتياز القديم لا أحد بمقدوره عقابه لأنه مؤسس في زمن خارج عن زمن المعاصرة، هنا فان القديم لابد ان تنتهي ليسمح للزمن الحديث بالظهور، زمن دونيا (اخت راسكولنيكوف) الحداثة وفعل تبرير المصلحة وطلب الربح، هنا ينتهي زمن القتلة الذين يقتلون بدافع الفكرة او الرغبة في القتل لا أكثر، وينتهي سفدريجايلوف بيده بان يفجر راسه صباحا في ميناء السفن وهو يصرخ امام الحارس: "وداعا، انني ذاهب الى امريكا"!

* في الأخير فان رواية الجريمة والعقاب عمل روائي غني كثيف يمكن دائما قراءته واستخراج صورة نقدية منه، لكنها صورة لن تمثل أكثر من قطعة فسيفساء صغيرة في كامل ضخامة العالم الروائي، لذلك فصورة الناقد لا تستطيع ان تحل بديل عن قراءة الرواية، والتي تكون مجرد قطعة جانبية امام انفتاح كامل المشهد العصي على التصور الا من قبل قارئه الأصل.

------------------------
* كاتب وباحث
omer1@gmail.com



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق