اسم الكتاب: الاتجاهات الحديثة في النثر العربي في
السودان
المؤلِّف: عبد الله الطيب
الناشر: معهد الدراسات العربية العالية- جامعة الدول
العربية
سنة الطبع: 1959
عرض: أسامة عباس
* مرَّت قبل أيام الذكرى السابعة* لوفاة البروفيسور
الدكتور عبد الله الطيب، الذي رحل عن دنيانا في يوم الخميس الموافق 19/6/2003م. وهنا
احتفاءً بذكراه أقوم بتقديم هذا العرض لكتابه «محاضرات في الاتجاهات الحديثة في النثر
العربي في السودان» الذي قمت بنشره قبل عامين بالملف الثقافي لجريدة الصحافة. وهو في
الاصل محاضرات كان الدكتور عبد الله الطيب قام بإلقائها على طلبة قسم الدراسات الأدبية
واللغوية بمعهد الدراسات العربية العالية في القاهرة. وقد طبع الكتاب بمطبعة نهضة مصر
في عام 1959م من القرن الماضي بالقاهرة- الفجالة، مشتملاً على ستة أقسام أو محاضرات
كما هي في الأصل «تمهيد/ من النثر الصوفي إلى الصحافة/ النثر في المهدية/ النثر المعاصر/
المحجوب ومحمد عشري/ محمد عشري» وجاء الكتاب في (97) صفحة من القطع الكبير.
* يرى المؤلِّف أن نثر السودان العربي الحديث، بدأ
أول أمره دينياً صوفياً، وأنه بلغ ذروته عند الشيخ محمد المجذوب وأبناء اخيه من بعده،
مفضلاً إياهم على من سماهم مدونو الأخبار أمثال ولد ضيف الله صاحب الطبقات، لأنهم كما
يكتب: «... إنما قصروا حديثهم على الكرامات وما أشبهها ولو كان نثر الطبقات عربياً
فصيحاً كله لبدأنا به ولكنه أقرب إلى العامية في جملته». وشرح يتابع في القسم الثاني
«من النثر الصوفي إلى الصحافة» لماذا استحسانه لنثر الشيخ المجذوب لذي يتَّبع كما يقول:
«مذهب سائر علماء العربية في عصره والعصور التي خلت من إيثار النثر الفني الخالص بألوان
من الصناعة والتسجيع وإرسال النثر العلمي إرسالاً، لما كان يحتاج إليه صاحبه من التبسّط
في العبارة» ويرى أن للمجذوب ضربين من النثر الصوفي، أحدهما مسجوع وآخر غير مسجوع،
وأن نثره المسجوع نفسه، به ضربان، ضرب «لعله كان باكورة عمله إذ نلمح فيه تداخلاً في
العبارات واكثاراً من الاستعارة التي تكثر فيها الإضافات وتتابع الأفعال»، وضرب آخر
«من سجع المجذوب أشبه بسجيته ونفسه وملكته إذ يسفر منه الوضوح ويغلب عليه الانسياب،
وتقصر السجعات، واحياناً يتجاوز السجع الى المزاوجة وشبه السجع. ومثاله لذلك: (ببسم
الله الرحمن الرحيم ننسج أطلس الأخبار، وبالحمد لله العظيم نرونق حبور السطور، الآثار.
وبالشكر لله الحليم نقرط آذان السامع بإقراط الولادة، وبالصلاة على المحبوب الأكبر
نحلي نحور صدور أهل السعادة، قائلين اللهم لك الحمد قبل ما نقول وخيراً مما نقول، حيث
أبدعت نور حبيبك محمد أول الإيجاد والإنشاء، واخترعت سره بقدرتك وعنايتك كما تشاء،
ففلقت من نوره جميع الأنوار، وشققت من سره كل الأسرار، وجعلت الحقائق فيه راقية.. وكذلك
من أمثلته: «وإذا قد ذكرنا سيرة المحبوب فلنرفع أكف الاحتياج لمالك خزائن الغيوب، فنقول
نسألك اللهم بلسان الحال والمقال ونثني عليك بكمال الكمال وجلال الجمال، ونكرر الحمد
والشكر على مزيد النعم ونرفع أطباق الفقر لنيل مالك من الفضل والكرم، نرجوك يا أول
يا آخر، ندعوك يا باطن يا ظاهر..)، وهو المثال الذي يراه المؤلّف من أجود ما كان يكتب
في بلاد العربية جميعاً في ذلك الزمان، ويقول: (يعجبني من هذا الفصل بخاصة استعارته
عند قوله «ونرفع أطباق الفقر لنيل مالك من الفضل والكرم». إذ تشبيه الأيدي المرفوعة
بالدعاء بأطباق السائل غاية في الجودة ولا أحسبني أغلو إن زعمت أن مثل هذا النثر قد
كان في جملته سابقاً لزمانه، لما كان طاغياً إذ ذاك من هجنة الأساليب وركاكتها).
* وفي القسم الثالث «النثر في المهدية» والذي يراه
المؤلِّف بمثابة المقدِّمة أو التمهيد لأسلوب الصحافة الذي جاء في العصر الحديث، وقد
تمثّل ذلك النثر في أسلوب المناشير الذي ابتدره الإمام محمد أحمد المهدي، وبه كما يقول
المؤلّف: (روح قوي يعبّر عن ذروة ما بلغه النثر الصوفي الدفعي في السودان من حيث الفكرة
والعقيدة..)، مورداً رسالة المهدي إلى الشيخ محمد الأمين الضرير، أنموذجاً على ذلك،
إلا أنه يشير لبعض الاضطراب في سجعه والتعثّر خاصة في نثر الراتب . ويتابع كاتباً:
(ولا يضير المهدي بعد أنه لم يكن مجوِّداً ناصح الفصاحة فحسبه ما وفق إليه من قوة الروح
وشدة الحماس وما تيسّر له من القيادة العظيمة التي جعلت من السودان شيئاً مذكوراً بعد
طول خمول). وكذلك أشار المؤلِّف إلى بعض ما كتبه خليفة المهدي عبد الله، كاتباً:
(...لم يكن يستحضر من القرآن ما يستحضره -أي مثلما يفعل المهدي- ولم يكن من حماسة القول
ولا قوة الجدل والاسهاب فيه، ما كان يملكه، وانما كان حاكماً يؤثر الامر والنهي على
الوعط والتذكير..). ومن رسالة الخليفة عبد الله إلى الحاج ود سعد أمير المتمة التي
أوردها المؤلّف، نقتطف: (سبق التحرير إليك في خصوص توجهك لجماعتك إلى ذلك الحبيب بدنقلا
للجهاد، وتأكد عليك بسرعة ذلك وعدم الالتفات سوى للسفر وترك جميع العلائق فيلزم على
طبق الأمر السابق القيام بتلك الجهة على وجه الفور بدون تأن بعلو همة وصفاء نية وحسن
طوية حيث أنك من الأصحاب المأمول منهم بذل الهمة في الله والمساعدة في إقامة دينه،
بعد وصولك لدى الحبيب محمد الخير. فان رأى مصلحة الدين في رجوعك في تلك الجهة التي
أنت بها فلا مانع من رجوعك كما أشرنا لك سابقاً. إنما يلزم سرعة النفار إليه وقطع كافة
العلائق لما في ذلك من الخير الذي لا يدرك مداه..). ثم ينتقل المؤلِّف إلى نثر (الشيخ
الحسين الزهرا)، والذي يراه معقداً ومتكلِّفاً (وليس فيه من الحماسة والتدفق ما في
أسلوب المهدي، ولا فيه من الوضوح العامي البحت، ما في رسائل الخليفة عبد الله وعماله).
ومن منشوره الطويل في مدح المهدي الذي اورده المؤلف، نقتطف: (الحمد لله الوالي الكريم،
والصلاة على سيدنا محمد مع التسليم، أما بعد فلما نادت به ألسن الأكوان بظهور المهدي
المنتظر، وتقرر ما نادت به عند ذي كل لب خلا عن الفتن ما بطن منها وما ظهر...).
* ويخبر المؤلف في القسم الرابع (النثر المعاصر)
الذي بدأ عقب انشاء الحكم الثنائي لصحافته الرسمية «جريدة السودان» التي كان يشرف عليها
قلم المخابرات، وكان محرروها الاوائل من المهاجرين المستوطنين مصر، وبعد اختفاء جريدة
السودان خلفتها جرائد اخرى شبه رسمية كالحضارة وملتقى النهرين، اللتين كان يحررهما
من السودانيين حسين شريف واحمد عثمان القاضي، من خريجي كلية غردون التي احدثت بعض التغيير
في الفكر السوداني، بما كانت تخرجه كل عام من جيل مثقف جديد. وقد وصف المؤلف ما كتبه
ذلك الجيل، انه (في جملته سليماً حسناً لا يخرج عن التقليد لما كان في الصحف المصرية
آنئذ). ويتابع يقول عن التحاق نجباء من الطلبة السودانيين. منهم حافظو القرآن، والذين
باشروا بدورهم بعد ذلك التدريس في كلية غردون أمثال الشيخ محمد المجذوب جلال الدين
والشيخ البناء والشيخ عبد الله عبد الرحمن الذي اخبر عن كتاب له اسمه «العربية في السودان»
وصفه المؤلِّف بالحسن وان طبعته قد نفدت الآن، أي منذ اوان تقديمه لتلك المحاضرات،
وفيه كثير من عادات السودان وموازنة بين الكثير من الألفاظ الدارجة وأصولها وأشار المؤلف
كذلك لأهميته كاتباً: (والكتاب لو أعيد طبعه، مما لا يستغني عنه الباحث الآن). لينتقل
للفترة التي تلت سنة 1942م ويراها مهمة في تاريخ السودان، حيث نمو الشعور القومي،
«وقد اتفق مع هذا الشعور القومي المحدث، أن الحاكم كان يضرب نوعاً من الحجاب على السودان،
فلم يبعث منه إلى الدراسة في الخارج أحداً إلا بأخرة، وهؤلاء ارسلوا الى بيروت لا الى
مصر، فكأن الحجاب من جهتها كان أشد، فزاد هذا كله من تعلق الجيل الجديد بالخارج، ولاسيما
مصر، شأن ابن آدم في كل ما يحرم منه). الى ان يقول إنه كان ينظر في أول امره لهذا الجيل
كمحاكين لما قرأوه في الصحافة المصرية، ومؤلفات كتابها المحدثين، الذين لم يكونوا هم
بدورهم الا محاكين لنماذج من ادب الغرب ويتابع كاتباً: (وخيل لي أنهم ما عمدوا إلى
هذه المحاكاة إلا التماساً للعزاء من دنيا اليأس التي كانت تحيط بهم، أو طلباً للظهور
في دنيا جيلهم الصغير. وكان يرجح هذا الظن عندي ما هو معروف من أعراضهم عن الكتابة
الادبية الخالصة بعد قيام السياسة والأحزاب. وقلت عسى كان قلقهم كله، وتطلعهم كله،
نفثة من نفثات الجهاد الوطني في ذلك الزمان).. الى ان يعود ويكتب: ولكن بعد طول النظر
استقر عندي انهم ربما ألموا بأطراف جميع ذلك، غير انهم كانوا في جوهرهم اولى مثل عليا،
شجعاناً حقاً، لهم حظ عظيم من الاصالة، ارادوا البيان عن ذوات انفسهم، وعن آمال بلادهم
فالتمسوه في الادب، ووفقوا فيه الى شيء من الاجادة، ثم التمسوه في السياسة، فشغلتهم
شواغلها، ووفّق كثير منهم توفيقاً عظيماً فيها. وقد كان منهم من يحاول الرجعة الى الادب
احياناً. ولكن هؤلاء لم يستقم لهم منه في الكرة الآخرة ما كان استقام اول الامر»..
وبالنسبة للمؤلف خيرة كتاب ذلك الجيل - سوى الشعراء- هم محمد احمد المحجوب، واحمد يوسف
هاشم، ومحمد عشري واخوه عبد الله عشري،( ومن هؤلاء محجوب ومحمد عشري) اديبان كبيران
لا ريب، لعلهما كانا «في بعض ما كتباه».. من أصل أدباء زمانهما في الشرق العربي كله..
وبعد أن استطرد في الحديث عن عبد الله عشري ـــ وأحمد يوسف هاشم عاد وكتب: (هذا، وقبل
الحديث عن محجوب ومحمد عشري، اللذين سيفرد لهما القسمين الاخيرين على التوالي ــــ،
لا بد من كلمة عن عرفات محمد عبد الله، إذ كان محرر الفجر، وكان يكتب من قبل في النهضة،
واشتهر في جيله بالأدب والبيان، ولا يزال كثيرون يقدمونه على محجوب وعشري وغيرهما.
واشهد قد اطلت النظر في افتتاحياته، في الفجر وما كتبه في النهضة، فثبت عندي أنه ليس
كالذي اشتهر من ذكره وأن فضيلته حقاً أنه كان رجلاً مثابراً، بذل جهداً كريماً عظيماً
في إخراج الفجر، وموافاة القراء بها مرتين في كل شهر..). ويتابع قائلاً: (وكثيراً ما
كان عرفات ينحو منحى الخطابة في نقده الاجتماعي فيبالغ في اللفظ ويغفل عن المعنى غفلة
تامة..).
* وفي القسم قبل الأخير والموسوم بـ«المحجوب ومحمد
عشري» يبتدر المؤلف بالقول: (لو جمع ما كتبه المحجوب ومحمد عشري في الفجر والنهضة كله
ما عدا كتاباً واحداً من الحجم المتوسط. ومع ذلك أزعم أن بعض كتابتهما من جيد ما عرفه
عصرهما في الشرق العربي، ولا شك أنها أجود ما عرفه السودان من الأدب الحديث حتى فجر
الاستقلال..).. وذكر نقد الأستاذ مختار الوارد بأحد أعداد الفجر والذي عاب فيه على
المحجوب اعتماده الأكثر على الأسلوب الخطابي بدلاً عن المنطق، لأن الناقد كما ينقل
المؤلّف قول الأستاذ مختار -أحوج إلى المنطق منه إلى الخطابة. ويتابع المؤلف قائلاً:
إن تلك التهمة هي نفسها التي أعادها الدكتور عبد المجيد عابدين في كتابه (تاريخ الثقافة
العربية في السودان)، وفي رده عليهما يكتب المؤلف: (وعندي أن هذا النقد، مع ما فيه
من وجوه الإصابة، مخطئ في جملته، وقد يصرف عن حقيقة ما اشتمل عليه أدب المحجوب من الأصالة
الفنية، والفكرية. أما الأصالة الفنية فما كان يحاوله من صياغة جديدة تجمع بين فصاحة
العربية وترسل الإنجليزية وأما الأصالة الفكرية فما كان يلتمسه من المثل العليا بمجتمعه
السوداني الناشئ في الأدب والسياسة والفن» ويورد مقالة المحجوب التي نشرت بمجلة «الفجر»
(الشعور القومي وحاجتنا إليه) والتي يراها المؤلِّف بينة المعنى، ألف فيها الكاتب بين
التبويب والربط المأخوذ عن المقالة الإنجليزية والإزدواج والمقابلة المتوفرة في البيان
العربي، (وتحدّث عن غير هذا من المزايا الإيجابية والسلبية في مقالة المحجوب.
* أما عن محمد عشري الذي أفرد له القسم السادس والأخير
من كتابه أو محاضراته، فكتب: (لمحمد عشري روية وعناية بما يكتبه، ولكن ليس له اندفاع
محجوب ولا حرارته وبريقه...)، وتابع المؤلف آراءه حول عشري من خلال تقديم نقده لمقالة
عشري حول المازني، ثم ختم كتابه حول اتجاهات النثر العربي الحديثة في السودان عن معاوية
نور الذي لم يفرد مكانا له، كاتباً: (هذا وكنت أود أيضاً أن ألم بأدب المرحوم معاوية
محمد نور، فقد كان معاصراً لجيل الفجر وأقام زماناً بمصر يكتب في صحفها، وانتمى إلى
بعض المدارس الأدبية ثم عاد إلى وطنه فتجّهم له العيش ثم أنهكه المرض ومات. وقد ترجم
له إدوارد عطية في كتابه الإنجليزي An Arab Tells His Story
وترجم له الدكتور عبد المجيد عابدين في كتابه دراسات سودانية. ونثره
في جودة الذين كان يساجلهم ويشاركهم في المذهب بمصر، ومما يجدر أن يوقف عنده. إلا أنني
في هذه الكلمة الموجرة إنما أستعرض اتجاهات النثر السوداني وما كان له أثر باق منها
أعلق بالذي أنا فيه من سواه وإن حسن. ولا أشك أن المرحوم معاوية لو أقام مع جيلي الفجر
والنهضة في السودان، لكان له من الأثر في توجيه أدبهم بنحو مما كان لمحجوب والعشريين
وأحمد يوسف، بل لعله كان يربى عليهم بما أوتيه من الذكاء الواقد والحماس المشتعل مع
الروية والملكة).
-------------------------------
* تاريخ النشر 28 يونيو 2010