الثلاثاء، 28 أكتوبر 2014

لماذا يكتب جورج أورويل








عرض: أسامة عباس


* ربما لا يعرف قارئ جورج أورويل، في ترجمات عربية، أنه كاتب مقالة، إذ يُذَكر دائما برواياته، لكن في هذا الكتاب سيطالع هذا القارئ، بفضل من المُتَرجِم البحريني علي مدن، عدداً من هذه المقالات البارعة والمُثَقِفة. يسأل برنارد كريك، مؤلف كتاب سيرة جورج أورويل، في مقدمة هذا الكتاب: ( ماذا بوسع الذين لا يعرفون عن جورج أورويل غير " مزرعة الحيوان" و "1984" أن يعرفوا عنه سوى ذلك؟) ليقول إن الكثيرين قرأوا ( المقالات كملحق لإنجازاته الأساسية بدلا " كما أشك" كأفضل أعماله).

  * صدر هذا الكتاب، الذي جاء في 298 صفحة، عن المؤسسة العربية للنشر في بيروت ووزارة الثقافة البحرينية في عام 2013م، شاملا تسعة عشرة مقالة، تفاوتت بين الطول والقُصر، وتنوعت بين تناول وقائع حدثت كـ "واقعة شنق/ صيد فيل" وحول تجارب مرت بالكاتب مثل " ذكريات محل بيع الكتب/ اعترافات مراجع كتب" وحول الحرب والبشر وتأثير الكُتّاب مثل مقالة "ويلز وهتلر ودولة العالم" ومحاورة أفكار وكُتّاب وقراءة كتب وحديث حول شخصيات كـمقالات (داخل الحوت/ كتب رديئة جيدة/ لماذا أكتب؟/ لير، تولستوي، والبهلول/ تأملات حول غاندي) إضافة لمقالة طريفة ومُنَوِرة "كوب لطيف من الشاي" المستندة على التجربة والمعرفة، وغير ذلك من المقالات.

* ولعله بديهيا البدء بمقالة "لماذا أكتب؟" التي منحت الكتاب عنوانه، ففيها يُخبر أورويل بأنه عرف منذ ان كان طفلا ما سيصير عليه، سيصبح كاتباً رغم محاولاته التخلي عن ذلك. ثم يقول بصعوبة معرفة دوافع كاتب دون معرفة شئ عن تطوره المبكر وعصره الذي يُحدد له موضوعه، خاصة عصر مضطرب وثوري، لكن الكاتب قبل أن يكتب، يكتسب موقفا عاطفيا لن يستطيع الهروب منه وإذا ما استطاع يكون قد جني على حافزه للكتابة. ويُحدد أورويل أربعة دوافع للكتابة، خاصة النثر، هي: حب الذات، والحماس الجمالي، ثم الحافز التاريخي والهدف السياسي. وبالنسبة له فانه يقول بترجيح الدوافع الثلاثة الأولى علي الرابع السياسي، لو أنه كان في عصر آخر، وربما لذلك يكتب: ( أكثر ما رغبت به.. هو أن أجعل من الكتابة السياسية فنا).

 * وتبدو هذه الرغبة واضحة في مقالته "داخل الحوت" التي كتبت سنة 1940 عن روايتي "مدار السرطان" و"ربيع أسود" لهنري ميلر، الذي يراه أورويل كاتبا شجاعا، يكتب عما هو اعتيادي، ثم يتحدث عن كُتاب بريطانيين كتبوا في عشرينات القرن الماضي وفي ثلاثيناته، مقارنا بينهم من حيث الموضوعات التي شغلتهم أو هدف كتابتهم، وبين فَعلة ميلر المرتبطة بعصره والمنفصلة في آن عن أحداثه. ويسترسل في مناقشة كتب وآراء من قبيل، حركة اليسار الاوربي ودلالة "اعتناق" الكُتّاب للماركسية أوللتيارات المسيحية، وارتباط الكاتب بعصره أو داخل الحوت وخارجه. ليعود في ختام مقالته يُقرظ ميلر مُشبها له بجيمس جويس، في نقل ماهو اعتيادي إلى الورق، لكن لا يرفعه إلي مرتبة جويس، فهو ليس مؤلفا عظيما، بيد أن كتابته غير مألوفة وسلبية، تتبني موقفا غير فاعلا، وذلك ماستسير عليه - كما يكتب أورويل - أي رواية تستحق القراءة في السنوات المقبلة.

* أما "لير، تولستوي، والبهلول" فهي مقالة حول كتاب صغير كتبه تولتسوي سنة 1903 رافضا فيه استحقاق العبقرية الذي يحوزه شكسبير، مُختارا لتأكيد ذلك مسرحية الملك لير. ويُجْمل أورويل ملاحظات تولستوي السالبة ويُحللها ويسأل: إذ كان ذلك هو شكسبير فكيف بقى مٌقدرا كل ذلك الزمن؟ ويُجيب ربما هناك نوع من التنويم الجماعي جُر إليه العالم المتحضر ليعتقد في أن شكسبير كاتب جيد. كذلك يقوم أورويل بمناقشة موقف كل من الملك لير الذي تنازل عن عرشه وتولستوي الذي تنازل هو أيضا في أخريات أيامه عن كل أملاكه ولقبه وحقوق ملكيته الفكرية، ثم يسترسل في عقد المقارنات ومناقشة أراء عديدة مشتركة بين الملك لير وتولستوي، ليخلص إلى أن موقف الأخير من المسرحية جاء نتيجة هذا التشابه.

 * وفي مقالة "تأملات حول غاندي" ينطلق جورج أورويل من رأيه الذي أعلنه منذ البداية (ينبغي دائما أن يُحكم على القديسيين بأنهم مذنبون حتى يثبت أنهم أبرياء) ويقدم سؤالين يقول أن المرء ينزع لطرحهما في حالة غاندي، أولهما إلي أي حد كان غاندي مدفوعا بالكبرياء؟ والثاني إلى حد ساوم بدخوله السياسة التي لا تَبَعُد بطبيعتها عن الاحتيال والقسر؟. ويناقش أفعالا لغاندي وكتابات له وحوله، متناولا مبدأ القداسة وصعوبة قبوله لدي الانسان العادي قائلا "إن الانسان المتوسط هو قديس فاشل"، كما يناقش حركة لاعنفيته وأثرها، مثبتا صدقه وشجاعته ومقارِنا له مع لاعنفيين في الغرب. ويختم أورويل ان المرء قد يشعر، تبعا لحالة القداسة التي أُسبقت على غاندي، أن أهدافه المبدئية كانت رجعية ومعادية للانسان، لكن باعتباره سياسيا "مُقارَناً مع القيادات السياسية لعصرنا، كم هي عطرة تلك الرائحة التي تمكن من أن يخلفها وراءه".


* أخيرا.. وفي المجمل يمكن القول، أن كل مقالات الكتاب تمتلك الجاذبية وتزخر بالمعرفة، لكني قمت هنا بعرض بعضها، لأن غرضي ليس تلخيص هذا الكتاب، إنما إثارة الفضول والتحريض علي قراءته، فهو كتاب ممتع ومفيد. ووصفي هذا ليس تقريظا مجانيا أو دفعا بعبارات مُخالِفة لحقيقة قراءتي للكتاب، من مثيلات تلكم الإكليشهات المُثبتة من قِبَّل مُراجع الكتب الضّجِر، الذي يصفه أورويل في مقالته الفكهة "اعترافات مُراجع كتب" بأنه كان يُراجع كتبا شديد الجهل بموضوعاتها، مُشبها عبارات المُراجع التي يستخدمها، بحشوات الحديد التي تقفز مُطيعة المغناطيس إلى أماكنها في المراجعة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق